اختر لغتك

تدخين الأطفال: الجريمة المسكوت عنها

تدخين الأطفال: الجريمة المسكوت عنها

لقد امتلأ مجتمعنا بالظواهر السلبية المدمرة، حتى أننا لم نعد نعرف أي داء ألم بنا، يتطلب التدخل السريع والدخول إلى غرفة العناية المركزة، حتى لا يقضى علينا وعلى المجتمع ككل، ولعل أخطر هذه الأمراض والظواهر الكارثية التي ابتلي بها مجتمعنا، لهي ظاهرة تدخين الأطفال الصغار. وإننا هنا لن نتحدث عن مضار التدخين، فهذا الأمر أصبح من البديهيات، وما دون هذا فهو عين العبثية. إنه لأمر مرعب، ومحزن ومفجع ومخيف. كيف لطفل لم يتجاوز العشر سنوات، أو بعدها بقليل أن يدخل بكل طمأنينة ، وأريحية وهدوء وسكينة . إلى محل لبيع السجائر ، ثم يخرج من جيبه قطعة أو ورقة نقدية . ويطلب من صاحبه ، وبصوت عال ، أن يبيعه علبة سجائر من هذه العلامة أو تلك . ثم يحملها بكل فخر واعتزاز ، ويدسها في جيبه ، هذا إن لم يخرج وهي في يده ، مباهيا بها ومستعرضا لها في الشارع . ويمضي في طريقه مزهوا بنفسه ، كأنه أتى فتحا يطاول فتوحات ، ذي القرنين في مشارق الأرض أو مغاربها.

ولأدهى والأمر أنه يعرف أسماء ، كل ماركات علب السجائر وأثمانها ، وكأنه خبير في هذا المجال . والفاجعة الكبرى هي أنه ، قبل أشهر قليلة كان طفلا غضا ، فأين ومتى تعلم كل ذلك ؟ . للوهلة الأولى من يراه يظن ، بأنه اشتراها لوالده أو لمن هو أكبر منه سنا . ويا لهول الفاجعة ، فهذا الصبي الذي بالكاد قد دخل مرحلة المراهقة . يحمل غنيمته بين أنامله ، وشاهرا لها في وجوه الناس . كإعلان تمرد على كل ما هو متعارف عليه ، وحمله لها بتلك الصورة المستفزة ، لهو بيان صريح ، مفاده الويل لكل من يبدي أدنى اعتراض على سلوكه . وبعد ذلك ينزوي في إحدى زوايا حييه ، أو تحت شرفة هذه العمارة أو تلك . ويستخرج ولاعة ، ويبدأ في التدخين بشراهة . أو قل إنه يعب السجائر عبا ، كناج من الفيفاء ، وصادف نهر ماء فرات . إنه ينزل مخططه الذي بات ، يهندس له طوال الليل ، أو فيما مضى من أيامه . وها هو وبكل طمأنينة وجرأة ، يضع ساقا على ساق . كأنه فتى كاوبوي ، من الغرب الأمريكي ، نظراته عدوانية ، كأنها جرس انذار ، يوجهه صوب كل من يحاول تنبيهه ، إلى خطورة ما هو بصدد القيام به . وها هو ينهش لهذه السيجارة ، من بعد أن أنهى لتوه ، واحدة لم ترو غليله ، وهكذا يمضي نصف يومه أو يومه.

ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد ، إنه يدخن ومن حوله . صبية صغار دون سن التمييز ، وبعضهم تعلم الكلام والمشي لتوه . إنهم يطاردون هذه الكرة أو تلك ، وفي نفس الوقت يدخنون معه تدخينا سلبيا . وهكذا يدخلون ومن هذه السن المبكرة ، عالم التدخين الموحش والمتوحش . إنهم يقتربون منه ، إنهم ينظرون إليه ، ويتأملون ما يفعله . وكل واحد منهم وبواسطة ذاكرته التصويرية ، يخزن في دماغه المشهد ويعانقه . ومرة بعد أخرى يتعود ، هؤلاء الصبية على المنظر ، ويألفونه ويتماهون مع صاحبه . ونحن الكبار سادرون في غفلتنا ونومنا ، وكأننا لا نرى الوحش المفترس لأكبادنا ، التي تلهو بكل براءة أمامنا .

وعقب سنوات قليلة يصبحون مدخنين ، وهنا تثور ثائرتنا ، وندعي بأن رفقاء السوء ، هم من أفسدوا تربيتنا لهم . وكأننا لا نعلم بأن الطفل ، يتماهى مع محيطه وتتشكل شخصيته ، واهتماماته وميوله ورغباته ، منذ سن مبكرة . علما بأنه وعن جهل منا نقذف به ، بين أحضان وحش التدخين ، المهم أن يسكت ونجد نحن الكبار وقتا لقضاء شؤوننا اليومية ، أو نتفرغ لما يُسلينا . ونسينا أو تغافلنا ، بأن الولد الصغير ، تتشكل هويته وشخصيته ، انطلاقا من محيطه عن طريق المحاكاة والتقليد . وهذا ما نراه في لف الأطفال الصغار ، للورق المتناثر على جنبات الطريق ومحاكاة المدخنين الكبار ، وهذه هي أول خطوات السقوط في الهاوية . والنتيجة أنهم سيصبحون نسخة ، من ذلك الطفل المدخن عندما يصلون إلى سنه . وهكذا ينضمون هم بدورهم ، إلى فيالق الأطفال المدخنين . وربما يكون هذا ، قبل بلوغهم سن التمييز .

إنها جريمة كلنا شركاء فيها ، سواء كنا شعبا أو حكومة ، ولا أحد منا يُعفي نفسه من عبء تحمل وزرها . أو يتنصل من عبء ، تحمل مسؤولية تبعاتها المدمرة . وهنا من حقنا أن نتساءل ، أين هم أولياء ذلك الطفل المدخن ، أو كل من يهمه أمره . وأين هم المؤتمنون عليه ( وما أكثر أمثاله ) أم أننا كلنا وقعنا ضحايا لآفة التدخين القاتلة ، أو لأخت لها . فأصبحنا نرى الأمر ، على أنه منطقي وطبيعي .

أم أننا أصبحنا جبناء ، نخاف من ثورة غضب الأطفال الصغار ، متى نحن نبّهناهم إلى خطورة ما يتعاطونه . أم أننا أصبحنا نخاف ، من مغبة اتيان شبهة التدخل فيما ما لا يعنينا . وعليه ففي سكوتنا سلامتنا ، وتجنبنا للمشاكل . ولكن الحقيقة المرّة ، هي أننا جبناء ، أمام أطفال صعار . وأمام بعض الأولياء ، ممن يجهلون خطورة ما يأتيه أطفالهم . والمهم عندهم ، أن يتجنبوا الدخول معهم في مشاجرة ، نتيجة أزمة المراهقة الحادة التي يمر بها بعضهم . وما فعلناه ما هو إلا ، تهربا من تحمل المسؤولية ، أو لجزء منها . إننا كبار ولكننا ، نرتدي أثواب الأطفال الصغار ، بجبننا وادعائنا الزائف ، بأننا لا نحشر أنوفنا فيما لا يعنينا . وهذه الأخيرة ، كلمة حق أريد بها باطل ، فمتى كانت جريمة تدخين الأطفال لا تعنينا ؟ . إننا بهذا الجبن ، نخشى مجابهة الطوفان ، الذي لن يكون ضحاياه ، هؤلاء الصبية ، ممن ابتلعهم وحش التدخين المدمر . إن طوفان الأمراض والعلل ، سيجرفنا جميعا ، إلى هوة حيث لا عودة منها ، إلا ونحن أشباه أحياء .

ترى أين هو والد ، ذلك الطفل الصغير ؟ . ومن أين أتي بتلك النقود ، التي اشترى بها علبة السجائر الغالية أو الرخيصة . وهنا المشكلة ليست في السعر ، وإنما في الضرر الذي يعانق كلا العلبتين على حد سواء . لا أحد منا يعارض منح الأولياء ، صغارهم مصروف جيبهم . ولكن عليهم تقع ، مسؤولية مراقبتهم ، ومعرفة فيما أنفقوا تلك النقود . وهذا واجب لا يجب ، التنصل منه . وإلا فما من داع ، ليأتوا بعد مدة يشتكون من أولادهم . الذين لا يعرفون ، لا متى ولا كيف انحرفوا . وأصبحوا يبتزونهم ، أو يسطون على ممتلكاتهم في غيابهم . لقد حدث كل هذا في لحظة غفلة ، منا ( نحن الأولياء ) . وعندها لن ينفع ، لا عض الأنامل ولا ليت وليت .

أمّا إن كان الأولياء أنفسهم ، من يدفعون أولادهم إلى التدخين ، من خلال سكوتهم المشبوه ، ورضاهم المتخفي وراء عباءة الجهل . فنحن هنا أمام معضلة مركبة ، والخروج من متاهتها ليس بالأمر الهين والسهل . وعلينا جميعا أن نرجع القاطرة ، إلى سكتها ، وإلا فالهاوية تنتظرنا جميعا .

كما أننا لا نتساءل ، عن سبب استقالة بعض الآباء لوحدهم . وإنما إلى جانب هذا من حقنا أن نتساءل ، عن سبب استقالة الدولة ، وعدم اهتمامها بمسألة تهدد وجودها المستقبلي ، ونحن هنا نقصد معضلة تدخين الأطفال الصغار والمراهقين . نعم كيف للدولة ، ولحماية هؤلاء الأطفال . أن لا تسن قوانينا رادعة ومجرمة ، لكل من يبيع السجائر لقاصرين . أو أن لا تصدر قوانينا ، تمنع بيع السجائر للأطفال دون سن العشرين عاما . ومن يُشَكُّ في أمره ، يطالبه صاحب المحل باستظهار بطاقة التعريف الوطنية . ومتى تمنع أو أظهر عنفا ، فالسلطات المخولة تتكفل بأمره . ومعاقبة ولي أمره ، إن كان يعلم ويتستر على ابنه القاصر . ومحاسبته حسابا عسيرا ، وإن تطلب الأمر عرضه على القضاء ، لتعريضه طفله للخطر . ولأنه غير مسؤول ، ولا يتصرف تصرف من هو راشد أو الوالد ، الحريص على مصلحة وسلامة ، من هم تحت وصايته وكفالته . كما أنه ليس من المعقول ، أن نرهن الصحة العمومية ونعبث بها ، لنرضي نزوات عابرة لأطفال صغار ، أو لحفنة ممن يلهثون ، وراء الربح ومن بعدهم الطوفان . نعم إن الدولة ، ومتى لم تكن حازمة في هذا الأمر . فلننتظر جميعا الدمار ، الذي لا يبقي ولا يذر . وهذا الدمار الذي سيضرب المجتمع ، ويخلخل أركانه ومعها أركان الدولة معه . لن يكون بالضرورة ناتج عن تسونامي ، أو بركان أو زلزال مدمر . فالخراب الناتج عما سبق ذكره ، يمكن تداركه . وإنّما الخطر الأكبر ، يتأتى من تدمير الإنسان كقيمة لا يمكن تعويضها . فما الفائدة من إنسان ، ما هو إلا مجرد هيكل أجوف وخال من أي معنى ؟ . إنسان عديم القدرة على المبادرة ، أو الانخراط في الحياة ، لأن التدخين حطّمه نفسيا وجسديا . فطلق إرادة الحياة ، والعملية الانتاجية، وعانق إرادة الموت . والانتحار البطيء ، عبر معانقة أنامله ، لطاعون التدخين المدمر .

نعم إنه يتوجب على أولياء الأمور ، وعلى الدولة التصدي ، وبحزم لظاهرة تدخين الأطفال الصغار والمراهقين . فما بعد التدخين لم يبق سوى ، اقتحام عالم المخدرات والمهلوسات المرعب ، وعلى اختلاف أنواعها . إنه عالم الجحيم ، وعالم قعر جهنم السفلي ، الذي كشف عن مخالبه وكشر عن أنيابه ، وأظهر وجهه القبيح ليفترسنا جميعا ، في لحظة جبن أو غفلة منا . نعم ماذا ننتظر من الطفل ، الذي بدأ التدخين في سن العاشرة ، عندما يبلغ سن العشرين ؟ . لا شيء فالسيجارة سيتجاوزها ، وتصبح من الماضي الذي لا يثير اهتماماته أو فضوله ، أو يوصله إلى النشوة التي يصبو إليها . فهي قد عادت في نظره تنتمي ، لعالم الأطفال الصغار ، أمّا هو فتشرئب عيونه لعالم المخدرات الذي يعده بالكثير ، وبما لا يعد به عالم السجائر . وهنا تقع مسؤولية ما حدث ، على كاهل كل أولياء الأمور . فهم وبتراخيهم ، من قذفوا بهذا الطفل . إلى ذلك العالم اللعين ، الذي لا فكاك منه إلا بمعجزة ، أو بخراب المجتمع لا قدر الله . وهنا نقول بأنه لا يمكن ، لبعض الآباء ادعاء الصدمة والبراءة . عندما يكتشفون بأن ابنهم ، يتعاطى المخدرات ، أو يتاجر فيها . وهم من حرضوه على سلوك ، هذا الدرب ، بسكوتهم المريب والمدان . اتقاء لغضبه وثورته ، ورشوة منهم لشراء رضاه المزيف . وهنا عليهم أن يتحملوا كل المسؤولية ، لأنه حصاد تربيتهم.

نعم إننا جميعا نتحمل المسؤولية ، عما يحدث لصغارنا . أفرادا كنا أو حكومات ، إننا جميعا وبسكوتنا ، أو ادعاء عدم معرفة ما حدث ويحدث . ندمر أنفسنا بأنفسنا ، عبر تبديد أهم رأس مالنا . ألا وهو الانسان ، هذه الأيقونة التي يجب علينا جميعا الاعتناء بها ورعايتها والاستثمار فيها . إننا وبتدميرنا للإنسان ، كمن يقذف بكل ما يمتلك ، إلى ألسنة اللهب ، عن طيب خاطر . إن الزمن ليتجاوز كل شيء ، وكل الثروات لهي الأخرى إلى زوال أو يخلفها بديل ، إلا الإنسان فهو الثابت الوحيد المتبقي ، وهو رأس المال الوحيد الذي لا بديل ولا غنى لنا جميعا عنه . فكل الثروات السطحية والباطنية ، ما هي إلا عوارض طارئة وزائلة . في مسيرة الانسان والزمن ، إلا هو فهو وحده الثابت الضامن لاستمرارية ، الأمم والشعوب والدول . فإلى متى نبقى نبدد ، في رأس مالنا الوحيد ، وكأن الأمر لا يعنينا ؟ . وفي الأخير نقول لمَا لا تتوقف ، الدولة عن زراعة التبغ وتصنيعه ، إلا لمَا له علاقة بالأغراض الطبية . ما دمنا نجنى بضعة أوراق وقطع نقدية ، سرعان ما تهترئ وتصدأ . وفي مقابلها ندمر ، أهم رأس مال لنا ، ألا وهو الإنسان.

 

آخر الأخبار

قمر بن عثمان لاعبة كرة اليد بالجمعية النسائية بالحمامات ..تألق وتميز عن جدارة

قمر بن عثمان لاعبة كرة اليد بالجمعية النسائية بالحمامات ..تألق وتميز عن جدارة

التاكسي في تونس هو مرآة للفوضى الاجتماعية وأزمة في القيم

التاكسي في تونس هو مرآة للفوضى الاجتماعية وأزمة في القيم

في تونس نحن لا نبحث عن إرادة سياسية، بل في حاجة إلى إرادة وطنية بقيادة رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد

في تونس نحن لا نبحث عن إرادة سياسية، بل في حاجة إلى إرادة وطنية بقيادة رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد

مالك سعادة يلتحق بالمنتخب الوطني لأقل من 20 سنة استعداداً للتصفيات الإفريقية

مالك سعادة يلتحق بالمنتخب الوطني لأقل من 20 سنة استعداداً للتصفيات الإفريقية

رحيل صادم: البطل التونسي رامز بوعلاقي يغادر المنتخب الوطني في إسبانيا

رحيل صادم: البطل التونسي رامز بوعلاقي يغادر المنتخب الوطني في إسبانيا

Please publish modules in offcanvas position.