الإهداء: إلى بلقاسم بوقنة..في رحيله الشامخ.
"العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية..العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا".
"أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض ما ظلّ يتنفّس فيها مبدع واحد"( الكسندر بوشكين- بتصرف طفيف)
''يا والدة كانك عليْ دمّاعة..بالفاتحة ماتغفليني ساعة..".
اقتادتك- دوز- من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.
ولكن..المبدعين العظام يولدون مصادفة في الزّمن الخطإ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
بلقاسم بوقنة:أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت قُبيل انتهاء الأغنية دون وداع،فحين إكتفى معظم المبدعين ممن لامست أغانيك المتوهجة شغاف قلوبهم برثائك..والترحّم على رحيلك بدموع حارقة..
مطربنا الفذ:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما انبجست أغنية من شقوق المرايا..
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟
لا شيء..سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
الأغاني العذبة والصوت الجميل الذي يخترق في عنفوانه سجوف الصّمت،ويواجه بشموخ- الرداءة الفنية-بكل عناوينها. في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل..ولم نعد نميز بين الغث والسمين..!
الآن بعد رحيلك-القَدَري-أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد الفني كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى..!
أيّها المطرب المسافر عبر الغيوم الماطرة:لقد احتمى إسمك بالوجدان التونسي ابداعا خلاقا سنظلّ نتذكره جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة مطربين أفذاذ في حجم شموخك..
بلقاسم : الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي.الزمان المفعم بإشراقات الأغاني،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة الأقدار..
الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
والسؤال:
هل كان الحمام التونسي يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته-بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن..؟ !
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى مدينة-دوز الشامخة-أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق إحدى مقابرها -تضيئ القبور بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول-أحياء الفقراء-التي أحببتها،معقل الصابرين،حيث يرثيك أهلك و-مريدوك-بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية مفعمة بعطر الفن..نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق تونس التحرير..
أما أنتم-يا أيها المطربون والمبدعون-:إذا رأيتم-المطرب الفذ-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-نجما-ساطعا في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا لمعانه بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
وأخيرا إذا رأيتم المغنّي الجوّال حاملا قيثارته،افسحوا له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للنجم الآفل..
تقول الأغنية:
هناك كثيرون أمثالك..أعلّوا وشادوا..
وفي كل حال أجادوا..
وأنت أنجزت كل الذي في يديك..
وما عرف-الإسفاف-الطريق إليك..
لأنّك تؤمن أنّ الكلمات إن تلاقت قليلا..
ستصبح إبداعا..ولحنا جميلا..
وأنت ككل الذين أرادوا لوجه الحياة رداء جميلا..
تمنيت أن ينبلجَ الصبح من مقلتيك..
فعلت الذي كان حتما عليك..
ومن كان حتما على المطربين جيلا فجيلا..
محمد المحسن
*بلقاسم بوقنة هو مطرب تونسي أصيل بلدة دوز.اشتغل مدرسا بالتعليم الابتدائي،وقد برز بأغانيه التراثية الشعبية ذات الإيقاع الصحراوي. تغنى بالحب والفراق والوحدة،وأنتج حوالي 11 ألبوما -اشتهر كذلك بعدد كبير من الأغاني وقد أدت له المطربة أمينة فاخت بعضها.
غيبه الموت مساء أمس الأحد 5 ماي 2024 إثر صراع مع المرض بعد تعرضه لازمة صحية الزمته الإقامة بقسم الانعاش بالمستشفى الجهوي بقبلي .
رحم الله فقيد الساحة الفنية وأسكنه فسيح جنانه.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.