لم يخطئ الكاتب الإسرائيلي زيفي برئيل حين قال إن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بـ”القدس عاصمة لإسرائيل”، “أعلن وفاة عملية السلام، بينما كان أسلافه يعبثون بمحاولات الإنعاش”، لكنه أخطأ حين ختم تحليله، في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بقوله إنه لا داعي للقلق من اندلاع انتفاضة جديدة فـ”الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ليس القضية المركزية التي تشغل الفلسطينيين والدول العربية”. ستبقى القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية ومحور اهتمام العالم نظرا إلى أنها تصنف على رأس أسباب الفوضى الدائمة في الشرق الأوسط، لكن الوضع اليوم يحتاج إلى أكثر من بيانات التنديد والرفض وإلى رؤية تتوافق مع المتغيرات في المنطقة؛ فقرار ترامب، الذي جاء تحت ضغط اللوبي اليهودي (أيباك) وبضغط من المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، لن يؤدي إلا إلى فتح باب المزايدات على مصرعه، فيما المطلوب هو بلورة سياسات وقرارات ملموسة تأتي في سياق الحرب التي تخوضها الدول الإقليمية ضد كل مسببات الفوضى بدءا من إيران وأذرعها مرورا بجماعات الإسلام السياسي ووصولا إلى الحرب على الإرهاب وتنظيماته، فهل ستتطور الموقف العربي والعالمي الرافض إلى رد فعل أكبر من مجرد الإدانة؟
واشنطن- تخلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سياسة أميركية قائمة منذ عقود حين اعترف بـ”القدس عاصمة لإسرائيل” في تحد لتحذيرات صدرت من شتى أنحاء العالم من أن هذه الخطوة ستزيد الاضطرابات في الشرق الأوسط.
ولم تكد تهدأ العاصفة التي أحدثها احتفال بريطانيا وإسرائيل بمئوية وعد لفور (1917) بقصر لانكستر هاوس في لندن، حتى قال ترامب في خطاب في البيت الأبيض إن إدارته ستبدأ عملية نقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس وهو تحرك تحاشاه أسلافه من أجل عدم إلهاب التوتر في المنطقة.
وسعت جماعات الضغط لاستغلال الأزمات الإقليمية لتمرير هذا القرار، وهو ولئن كان رمزيا، إلا أنه يأتي بمثابة ردة فعل على مجموعة من التغييرات التي طرأت على مواقف القوى الإقليمية والقرارات التي اتخذتها المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة واليونسكو، والتي كانت في صالح الفلسطينيين على حساب الإسرائيليين، من ذلك تبني مجلس الأمن الدولي مشروع قرار يقضي بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وأيضا اعتراف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 30 نوفمبر الذي دعا الحكومات إلى احترام “الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة، بمدينة القدس، بما في ذلك الحرم القدسي الشريف، على صعيد القول والفعل”.
تقويض جهود السلام
منذ توليه السلطة في يناير 2017 وجه ترامب السياسة الأميركية لصالح إسرائيل معتبرا إياها حليفا قويا. ويفي قراره بشأن القدس بتعهد انتخابي وسيرضي القرار على الأرجح الجمهوريين المحافظين والمسيحيين الإنجيليين الذين يشكلون نسبة كبيرة من قاعدة أنصاره. وخلافا لذلك لا توجد فوائد سياسية واضحة بالنسبة له.
واختار ترامب صهره غاريد كوشنير ليكون مسؤولا عن عملية السلام. لكن المفاوضات لم تحقق أي تقدم، وبإعلانه الأخيرة يقوض الرئيس الأميركي دور الولايات المتحدة التاريخي كوسيط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما أنه يضاعف من توتر العلاقات مع حلفاء واشنطن العرب الذين تعول عليهم لمساعدتها في الوقوف في وجه إيران ومحاربة الإسلاميين المتشددين.
وقال السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل دانيال كيرتزر “ترامب لا يمكنه توقع أن ينحاز بشكل كامل مع إسرائيل بشأن معظم القضايا الحساسة والمعقدة في العملية ويتوقع في الوقت نفسه أن يرى الفلسطينيون الولايات المتحدة وسيطا أمنيا”. وأضاف أن “رغبة ترامب المعلنة للتوصل إلى الاتفاق الأحادي هي الآن ضحية لسياسته الخرقاء”.
وسعى ترامب لتبني نبرة مهادنة بعد قراره، فأكد التزام الولايات المتحدة بدفع عملية السلام قدما، لكنه لم يكن مقنعا حين أكد “التزامه القوي بالتوسط من أجل سلام دائم”، مشددا على أن الوضع النهائي للقدس رهن بالمفاوضات مع الفلسطينيين. فهذا “الالتزام” لا يكفي، بحسب دبلوماسيين ومراقبين في واشنطن، سبق أن أبدوا التشكيك في فرص نجاح إدارة ترامب، وبعد قراره الأخير بشأن القدس باتت أغلبية هؤلاء ترى أن فرصها في النجاح معدومة.
وأوضح إيلان غولدنبرغ، الباحث في مركز لأجل أمن أميركي جديد، أن هذا القرار “سيؤدي في أفضل السيناريوهات إلى نسف الوساطة الأميركية”، و”في أسوأ السيناريوهات سيترافق مع تظاهرات معممة وأعمال عنف كبرى”. واعتبر غولدنبرغ أنه كان أجدى بالرئيس الأميركي إعلان قراره “في إطار اقتراح للسلام الشامل”، مؤكدا أنه أخطأ في الظن أن الصدمة يمكن تخفيفها بدعمه بالحد الأدنى لحل الدولتين القاضي بتعايش إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب.
واتفقت مختلف الآراء على أن إعلان ترامب بشأن القدس هو أحد أخطر قراراته التي تهدد باستمرار تردي الوضع الهش في الشرق الأوسط، وسيفتح الباب أمام المزيد من الأزمات ومزايدات مختلف الأطراف التي لطالما اتخذت من القضية الفلسطينية مطية للاستقطاب والبحث عن شرعية في المنطقة العربية، ناهيك عن القلق من أن يؤدي هذا القرار إلى الرفع من درجة خطورة الوضع الإرهابي.
وحذرت بربارة سلافين، من مجموعة مجلس الأطلسي، من أن “إيران ستطرح نفسها مجددا بصورة المدافع الفعلي للقضية الفلسطينية”. وهددت حركة النجباء العراقية المدعومة من إيران باستهداف القوات الأميركية المتواجدة في العراق، فيما تصدر شعار “الموت لأميركا” العناوين الرئيسية لمنابر إعلامية تابعة لإيران وحزب الله، الذي استفاد كثيرا خلال الحروب التي خاضها ضد إسرائيل في بناء قاعدة شعبية عريضة في المجتمعات العربية بمختلف توجهاتها الأيديولوجية والسياسية والمذهبية، لكن انهارت هذه الشعبية على وقع الصراع في المنطقة وأساسا الحرب في سوريا وموقف الحزب الذي سبق وأن قال أمينه العام السيد حسن نصرالله في بداية الحرب، إن “الطريق إلى القدس” يجب أن يمر من خلال بعض المدن السورية، بما في ذلك حلب.
وفي ظل الوضع المضطرب في المنطقة اليوم، سيكون لهذه القضية المصيرية دور كبير في التأثير على مجريات الأحداث والحروب المشتعلة على عدة جبهات. وقال غولد نبرغ إنه يمكن أن تتحول احتجاجات الفلسطينيين بسرعة شديدة إلى أعمال عنف تلتقي مع مصالح إيران والجماعات المتشددة التي تواجه تصعيدا دوليا من الممكن أن ينسف نتائجه القرار الأميركي الأخير. كما أعرب عن دهشته من أن واشنطن قد تواجه خطر تصعيد التوترات في الوقت الذي كان من الواجب عليها العمل على “تهدئة المنطقة”.
لا يحمل القرار الأميركي سوى دلالة رمزية فقط بالنظر إلى سيطرة إسرائيل في الواقع على المدينة منذ أن استحوذت خلال حرب عام 1967 على النصف الشرقي من المدينة ووسعت بشكل كبير حدودها. بيد أن كل الإدارات الأميركية التي تعاقبت على السلطة منذ ذلك الحين أعلنت أنها لن تتخذ أي موقف بشأن الوضع النهائي للقدس إلى أن يتفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون حول القضية بأنفسهم.
وحين أصدر الكونغرس الأميركي في عام 1995 قانونا يقضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فاوضت إدارة كليتنون على إدراج بند في القانون يخوّل الإعفاء من تطبيقه لدواع خاصة بالأمن القومي الأميركي. ولم تهدف الإدارة الأميركية من خلال هذه الخطوة إلى الحفاظ على سياسة قديمة وطويلة الأمد لدى السلطة التنفيذية فحسب، بل إلى السماح للرئيس الأميركي أيضا بتحديد ما إذا كان من شأن مثل هذه الخطوة أن تخدم مصلحة الولايات المتحدة المتمثلة بتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
وطلب الكونغرس من كافة الإدارات الأميركية اللاحقة الالتزام بهذا البند كل ستة أشهر، وأصبحت هذه المدة تجدّد في كل مرة حيث كان كل رئيس يقرر أن إسقاط هذا الإعفاء سيفتح المجال أمام أعداء السلام باستغلال اعتراف الولايات المتحدة الرسمي بالقدس والتحريض على العنف بسبب هذه المسألة المثيرة للعواطف.
ويشير مروان المعشّر، نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلى أن العديد من الرؤساء الأميركيين السابقين قطعوا وعودا خلال حملاتهم الانتخابية بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، لكن سرعان ما كانوا يغيّرون مواقفهم فور تسلمهم السلطة. كانت التداعيات السلبية آنذاك، في خضم عملية السلام نشطة وواعدة، ومروّعة.
غير أن الرئيس دونالد ترامب قرّر الآن الإيفاء بالوعد الذي قطعه خلال حملته الانتخابية، وذلك لسببين؛ الأول أنه أحاط نفسه بأشخاص ملتزمين أيديولوجيا بدولة إسرائيل، من دون تعاطف مع الجانب الفلسطيني. لكن السبب الأهم هو أن هذه الإدارة أظهرت جهلا مثيرا للقلق في تعقيدات الصراع العربي-الإسرائيلي، ويبدو أنها غير مكترثة حيال التوفيق بين عملية نقل السفارة هذه إلى القدس، وبين ادّعائها بالعمل على حلّ دائم للصراع من خلال “صفقة القرن”.
وقال مسؤول كبير بالإدارة الأميركية إن نقل السفارة قد يستغرق من ثلاث إلى أربع سنوات، وقد تنتهي ولاية ترامب الرئاسية الأولى دون تحقيق عملية الانتقال، فيما أكد دافيد هوروفيتس، رئيس تحرير صحيفة تايمز أوف إسرائيل، أن إعلان ترامب ليس بمثابة التزام أميركي بـ”أي مسائل مكانة نهائية، بما يشمل حدود السيادة الإسرائيلية في القدس”.
والأمر المؤكد، وفق معشر، هو أن هذه الخطوة ستثير ردود فعل قوية في أوساط العالمين العربي والإسلامي. والمؤكد أيضا أنها ستضع حدّا لأي حوار هادف مع الفلسطينيين، وستقضي على أي صفقة تحاول الإدارة الأميركية السعي إلى إبرامها، باعتبارها غير مقبولة أصلا بالنسبة إلى الفلسطينيين، الأمر الذي يبدو أن الولايات المتحدة لا تفهمه هو أن الجيل الفلسطيني الجديد يركّز أساسا على مجالات أخرى، أي على رفع تكلفة الاحتلال.
وأثار القرار غضبا كبيرا من الرياض إلى طهران مرورا بأنقرة وحتى في بروكسل. وكانت ردود فعل جميع دول العالم منددة بالقرار. ونقلت وكالة الأنباء السعودية عن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز قوله إن “هذه الخطوة الخطيرة من شأنها أن تثير غضب المسلمين حول العالم بسبب المكانة العظيمة التي تمثلها القدس والمسجد الأقصى في قلوبهم”، وهو ما أكدته مختلف الدول العربية، فيما قال وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل “من مصلحة الجميع أن لا يحدث ذلك”، فيما ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التأكيد على عدم اعتراف بلاده بهذا القرار “أحادي الجانب والذي يتعارض مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي”.
وحذرت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني من أن إعلان ترامب حول القدس “يثير قلقا شديدا ويمكن أن يعيدنا إلى أوقات أكثر ظلمة من التي نعيشها الآن”، داعية كل الأطراف إلى “التحلي بالحكمة وعدم التصعيد”.
ولن تسلم التهدئة الهشة بين إسرائيل والقوى الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية من تداعيات القرار الأميركي؛ إذ من المرجح أن تتفجر انتفاضة جديدة احتجاجا على قرار ترامب، بالإضافة إلى تهديدات الجماعات اليهودية المتطرفة التي قامت قبل صدور القرار بساعات باقتحام ساحة المسجد الأقصى، وهو ما سيترتب عليه تفجر مواجهات عنيفة مع الطرف الفلسطيني، كما أن استخدام قوات الأمن الإسرائيلية للعنف في مواجهة الاحتجاجات الفلسطينية سيضر بمحاولات إسرائيل تحسين صورتها الدولية.
ووفقا لغولدنبرغ، على إسرائيل أن تولي اهتمامها لمثل هذه التداعيات، فـ”هذه الخطوة من المحتمل أن تضر بشكل بالغ بالمصالح الإسرائيلية في المنطقة، مضيفا أنه “لا توجد هناك أي إجابة منطقية عن سبب قيام ترامب بذلك. قد يكون ذلك بسبب حبه للدعاية والشهرة. لا توجد هناك حجة قوية للقيام بذلك من أي جانب من جوانب التفكير السياسي، فهذا التصرف لا يحمل أي معنى”.
وذهب في ذات السياق المفكر الفلسطيني إلياس نصرالله إلى أن نقل السفارة الأميركية ينهي عمليا التفكير في استئناف عملية السلام، ويؤكد مزاعم الكثيرين برغبة الولايات المتحدة في الإبقاء على الصراع في المنطقة على حاله. وأضاف لـ “العرب” أن سياسة ترامب المتناقضة تزيد من الاضطراب في المنطقة العربية، وإقدامه على خطوة كبيرة من هذا النوع، تجنب كافة الرؤساء السابقين اتخاذها، معناه رغبته في إشعال المزيد من الحروب، وليس إطفاءها.
المصالحة الفلسطينية
يخشى خبراء من تأثير القرار على المصالحة الفلسطينية، التي تراعها القاهرة بين الفصائل الفلسطينية، والتي بدأت تواجه تعثرا لافتا، بعد أن نشب توتر بين القوى الفلسطينية خلال الاجتماعات الأخيرة قبل إعلان تسليم قطاع غزة لحكومة الوفاق، بسبب خلافات حول ملفي الأمن والموظفين الذين عينتهم حماس، ما أدى إلى تأجيل مهلة التسليم من الأول من ديسمبر إلى العاشر من الشهر ذاته، وربما يتوالى التأجيل في ضوء الانقسام الظاهر حاليا حول التعاطي مع قضية القدس.
وتقوم المصالحة بالأساس على توحيد الصف الفلسطيني تحت راية السلطة الفلسطينية لتجلس أمام الطرف الإسرائيلي من أجل التباحث بشأن عملية السلام المزعومة، ولكن يرى خبراء أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ينسف عمليا فكرة التسوية السياسية ويجعل الأمر أكثر تعقيدا، وبحاجة إلى المزيد من الجهود.
ومتوقع أن ترفض الفصائل الفلسطينية استكمال المصالحة أو تطالب بتأجيلها إلى أجل غير مسمى بداعي أنها ابتعدت عن مضمونها الأساسي وهو توحيد غزة والضفة الغربية من أجل إجبار الجانب الإسرائيلي على استكمال المباحثات المجمدة منذ عدة سنوات.
وقال سعيد اللاوندي، الخبير في شؤون العلاقات الدولية، “إن البيانات الصادرة عن القوى السياسية طغى عليها الجانب الدعائي أكثر من تعبيرها عن مواقف سياسية تمثل تلك القوى”. وأضاف في تصريحات لـ”العرب”، أن التحركات الشعبية في مواجهة القرار الأميركي ستكون مؤثرة في الأراضي الفلسطينية فقط، وحضورها في غالبية العواصم العربية لن يكون مؤثرا.
ويتطلع كثيرون في المنطقة إلى أن يكون الرد الفلسطيني على قرار ترامب هو إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد وعاصمتها مدينة القدس، ضمن خطوة، ولئن كانت رمزية بدورها، إلا أنها وفي ظل الموقف العالمي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تلاقي تأييدا بما يجعل إسرائيل تواجه أوضاعا إقليمية ودولية شديدة التعقيد وسط توجه نحو تشديد المقاطعة عليها.