حملة النظام الإيراني التي يصور فيها نفسه كضحية للعدوان الأميركي في أعقاب اغتيال سليماني تتحول لكارثة علاقات عامة داخلياً وخارجياً.
على عكس السنوات الماضية، تتأهب إيران لاستقبال شهر فبراير الذي سيشهد إحياء الذكرى الواحدة والأربعين للثورة الإسلامية، وانتخابات تشريعية على وقع توجّس مملوء بتخوفات من أن يتحوّل هذا الشهر إلى موعد مشؤوم قد يزيد في إرباك النظام المحاصر بتحولات داخلية وخارجية أو قد يساهم في الإطاحة به. ومن المنتظر أن تغيب عن هذين الموعدين تلك القداسة التي اتسم بها عيد الثورة سابقا بسبب استعدادات جموع من الإيرانيين للنزول إلى الشارع مجدّدا ليس للاحتفاء بالثورة بل للتنديد والاحتجاج ضد سياسات حكومية أدخلتهم في مستنقع حروب إقليمية أثرت على الوضع الاقتصادي للبلاد.
طهران - يوم 1 فبراير 1979، خرج الملايين من الإيرانيين، أغلبهم من الطلبة والشباب، عند مدخل طهران لاستقبال الخميني. بعد أكثر من 14 عاما في المنفى، عاد الخميني منتصرا ضدّ الشاه، من باريس إلى طهران، على متن طائرة فرنسية، في رحلة قلبت أوضاع إيران رأسا على عقب، وامتدت ارتداداتها إلى المنطقة الإقليمية والعالم.
وعلى مدى أربعين عاما، ظل النظام الإيراني يحتفل بذكرى الثورة الإسلامية ويعرض فيديوهات الحشود وهي تستقبل الخميني الذي ارتدى ثوبا أسود وعمامة سوداء في سيارة تبعها موكب من الحافلات الصغيرة التي كانت تقل صحافيين قدموا من العالم بأسره لتغطية الحدث، الذي ظل مقدّسا ومحميا بسلطة الحرس الثوري ورجال الدين.
لكن، اليوم، ومع اقتراب الذكرى الواحدة والأربعين لهذا الحدث، لا تظهر تلك القداسة وسط جموع الإيرانيين المحتشدين في الشارع، لا احتفاء بذكرى الثورة الإسلامية بل تنديدا بما حملته من وعود زائفة وقمع وفقر وتفرقة مجتمعية.
وتضم أحدث موجة من الاحتجاجات الطلاب والإيرانيين من الطبقة الوسطى، على عكس المتظاهرين من الطبقة العاملة الذين خرجوا إلى الشوارع العام الماضي. ويمكن أن يكون حجم حشد الطلاب على وجه الخصوص علامة مشؤومة للنظام، بالنظر إلى دور الطلاب التاريخي باعتبارهم طليعة التغيير في إيران.
وقال علي رضا نادر، زميل أقدم في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، “الطلاب أوصلوهم إلى السلطة، ويمكن للطلاب أن يكونوا جزءا من المعادلة التي تخرجهم من السلطة أيضا”.
فصل جديد
مع اقتراب ذكرى الثورة، وبالتزامن مع الآثار الملموسة لسلاح العقوبات الأميركية، وبالإضافة إلى الاحتجاجات الداخلية الواسعة منذ ديسمبر 2017، تزداد التساؤلات حول إمكانية دخول إيران في هذا العام فصلا جديدا من تاريخها السياسي.
في مطلع فبراير تحل ذكرى الثورة الإيرانية، ويوم 21 من نفس الشهر من المنتظر أن تنتظم في إيران الانتخابات التشريعية. ورغم أن تأثير هذه الانتخابات على السياسة الخارجية للبلاد ضعيف، إلا أن نتائجها في هذه الفترة الحرجة ستكون مهمة جدا. وهي ستكون بمثابة اختبار مهم لقوة المعسكرين السياسيين الرئيسيين (اليمين المحافظ والإصلاحيين البراغماتيين)، وسيكون لها تأثير على الانتخابات الرئاسية المتوقعة في صيف عام 2021.
ويخشى متابعون من أن تكون من تداعيات مقتل قائد فيلق القدس والضغط الأخير على طهران استعادة المحافظين المتشددين للسيطرة، وإذا استعاد المحافظون السيطرة على البرلمان، فمن المرجح أن يعزز هذا الاتجاه المحافظ في سياسة الدولة ويجعل من الصعب على الرئيس تحقيق أهدافه خلال السنة الأخيرة من فترة رئاسته، سواء في الشؤون الداخلية أو في العلاقات الخارجية.
في المقابل، يقلل من حدوث هذا السيناريو متابعون آخرون ينظرون إلى الحماسة التي يتحدث بها المحتجون الإيرانيون وحالة الضغط القصوى التي وصل إليها الشعب، على مستوى الفقر والإحباط والبطالة والفوارق الاجتماعية، ضمن مشهد يذكرهم بما حصل عشية الثورة ضد الشاه رضا بهلوي.
عكست الاحتجاجات الأخيرة زيادة التطرف في الرأي العام الإيراني، مع تضاعف الشعور بأن أيا من المعسكرين السياسيين الرئيسيين، المحافظين والإصلاحيين، قادر على حل المشكلات الأساسية للبلاد. وتعكس هذا الوضع الشعارات التي رفعت خلال الاحتجاجات، ومنها “أيها المحافظون والإصلاحيون، انتهت اللعبة!”. وتجاوز المحتجون الخطوط الحمر برفع شعار “الموت لخامنئي”. وأظهر المحتجون، وأغلبهم من الشباب، احتقارا لمؤسسة رجال الدين من خلال هتافهم “الناس فقراء، بينما يعيش الملالي كالآلهة”.
ولعل أكبر مظهر يترجم حالة الغضب الشعبي رفع صورة الشاه رضا بهلوي في ذكرى الثورة السنة الماضية. وصاح المحتجون قائلين “حيث لا يوجد شاه، لا يوجد نظام”. وكرر آخرون في قم “يا شاه إيران، عد إلى إيران”. وسمعت شعارات مماثلة في أصفهان.
وأظهر استطلاع للرأي العام أجراه معهد استقصاء “إيسبا” الإيراني أن 15 بالمئة فقط من المواطنين راضون عن النظام. وقال 16 بالمئة فقط من المشاركين إنهم يتوقعون تغييرا إيجابيا في مستوى معيشتهم في المستقبل، مقارنة بـ52 بالمئة يتوقعون تدهور الوضع. وبرر حوالي 75 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع أحدث موجة من الاحتجاجات، لكن أعرب معظمهم عن رأيهم بأن هذا الاحتجاج أيضا لن يولد تغييرا إيجابيا في سياسة الحكومة. وقال 54 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع إن الاحتجاجات ستستمر.
أزمة ثقة
ومنذ أن اندلعت الاحتجاجات، خاصة في السنة الماضية إثر الترفيع في أسعار البنزين، حذر المتابعون والمثقفون والأكاديميون الإيرانيون البارزون من تعميق الإحباط واليأس وفقدان ثقة الشعب الإيراني. هذه التحذيرات أُطلقت كذلك في المعسكر المحافظ. على سبيل المثال، حذر المعلق السياسي والصحافي أمير محبيان، المرتبط باليمين المحافظ، من أن الفترة الزمنية بين موجات الاحتجاج قد تصبح أقصر.
وقد يؤثر اليأس العام المستشري على إقبال الناخبين في الانتخابات. وقد يكون انخفاض إقبال الناخبين علامة أخرى على مرور النظام، بممثليه الإصلاحيين والمحافظين، بأزمة شرعية.
وتتضاعف هذه الأزمة مع عجز النظام عن “الدفاع” عن نفسه، سواء من خلال المظلومية أو من خلال القمع.
ويشير تحليل لمجلة فورين بوليسي إلى أن النظام الإيراني يواجه أزمة علاقات عامة. ويفسر معدو التقرير كولوم لينس وكيث جونسون ومايكل هيرش، ذلك مشيرين إلى أن طهران أججت ضدها الرأي العام بسبب معلوماتها المظللة.
ويقول الخبراء إن حملة النظام الإيراني التي يصور فيها نفسه كضحية للعدوان الأميركي في أعقاب اغتيال اللواء قاسم سليماني تحولت إلى كارثة علاقات عامة في الداخل وفي جميع أنحاء العالم حيث تدفق الآلاف من المتظاهرين المعادين للحكومة إلى الشوارع، يعبرون عن غضبهم واستيائهم من أكاذيب النظام في طهران.
وكانت حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية القشة التي قصمت ظهر النظام. فبعد ثلاثة أيام من الإنكار، أعلنت طهران مسؤوليتها عن إطلاق هجوم صاروخي أرض – جو أسقط طائرة أوكرانية بالقرب من مطار طهران الدولي، مما أسفر عن مقتل 176 شخصا، من بينهم مواطنون إيرانيون وكنديون وألمان وسويديون.
الاحتجاجات تعكس زيادة تشدد موقف الرأي العام الإيراني من النظام العاجز، بشقيه المحافظ والإصلاحي، عن حل المشكلات الأساسية
جاء هذا الاعتراف بعد أن اكتشف الفنيون الأوكرانيون أجزاء من الصاروخ مختلطة مع الحطام، مما قوّض نفي المسؤولين الإيرانيين. وقال مسؤولون إيرانيون إن الخطأ وقع لأن أنظمة الدفاع الجوي كانت في حالة تأهب قصوى في أعقاب هجوم صاروخي انتقامي على قاعدتين عراقيتين الأسبوع الماضي.
لكن، ذلك لم يكن سوى تحريف آخر في تصريحات النظام الإيراني، الأمر الذي أجج نيرانا أشعلت المظاهرات ضد حكام البلاد. وتمثل هذه الاحتجاجات تحديا قاتلا لقادة إيران، على الرغم من أن النظام تمكن من قمع هذه المظاهرات في الماضي. وغرد مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، المدافع منذ فترة طويلة عن الإطاحة بالحكومة الإيرانية الحالية، “تغيير النظام يلوح في الأفق”.
لكنّ آخرين حذروا من أن سياسات إدارة ترامب تجاه إيران ليست لها فرصة تذكر في الإطاحة بالنظام الذي ظل قائما منذ 40 عاما. وقال حسين إيبش، خبير شؤون الشرق الأوسط، “لن يحدث ذلك”، وأكد على أن المتظاهرين يمثلون قطاعا واحدا فقط من المجتمع الإيراني.
لا شك في أن عدد كبير من الإيرانيين يدعمون النظام بشكله الراهن، كما اتضح من الإقبال الهائل على جنازة قاسم سليماني، إلا أن الأمر لا يخفي أيضا حالة الانقسام الحادة. فبينما خرج الآلاف من الإيرانيين، أغلبهم من جيل الثورة، إلى شوارع إيران لحضور موكب الجنازة، هتف المتظاهرون في جامعات متعددة في نفس الوقت ضد “سليماني القاتل، وزعيمه الخائن، والموت للدكتاتور”. وفي الاحتجاج ضد حادثة الطائرة الأوكرانية، كما دعا متظاهرون آخرون إلى إقالة كبار مسؤولي الأمن المسؤولين عن كلّ من سقوط الطائرة ومحاولة التستر على الحدث.
وأظهرت قوات الأمن الإيرانية في مختلف الاحتجاجات أنها ستستخدم القوة ضد أي شخص يهدد نظام الجمهورية الإسلامية. لكن، اليد القمعية لم تعد ترهب المحتجين.
وأظهرت مقاطع فيديو الطلاب في جامعة شهيد بهشتي في طهران وهم يتفادون دهس الأعلام الأميركية والإسرائيلية بأرجلهم. وجاءت الضربة الأخرى عندما قالت الحائزة على الميدالية الأولمبية في إيران، كيميا علي زاده، إنها لا تريد أن تتواطأ مع “فساد النظام وأكاذيبه”.