حماس باماكو للتسوية مع الجماعات المسلحة في حاجة إلى دعم دول الجوار لتفكيك الجهاديين.
تسير مالي نحو تبني توجه مناهض لإرادة فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون وخططها في باماكو، ويقوم هذا التوجه على وقف التمرد المسلح في البلاد من أجل اكتساب شرعية سياسية وشعبية من خلال التفاوض مع الجماعات المسلحة ومن بينها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بقيادة إياد أغ غالي العدوّ الرئيسي لباريس في المنطقة. لكنها باتت في حاجة ملحّة إلى دعم دول الجوار في مواجهة الكيانات المسلحة التي تروّج أنها هزمت فرنسا وأجبرتها على الانسحاب من مالي ودول الساحل الأفريقي.
باماكو - يُعد وضع السلطات في مالي مسألة التفاوض مع الجماعات المتطرفة داخل حيز التنفيذ رسميا بعد تداوله نظريا وإعلاميا على مدار عامين، بمثابة إعلان عن استغناء فعلي عن فرنسا في ملف مكافحة الإرهاب في البلاد.
كلف المجلس العسكري الذي يدير شؤون مالي المجلس الأعلى الإسلامي الثلاثاء للتفاوض مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي تحالف يدين بالولاء لتنظيمي القاعدة ويرأسه الزعيم الطوارقي إياد أغ غالي وحركة تحرير ماسينا التي يتزعمها أمادو كوفا من إثنية الفلاني، في مسعى إلى إنهاء صراع استمر نحو عشر سنوات بشكل سلمي بعد فشل الحلول العسكرية التي وفرت لها فرنسا دعما نوعيا.
ولم تنجح باريس التي عارضت تلك الخطوة مرارا في حلّ معضلة الإرهاب في مالي وفي دول الساحل والصحراء من خلال الحلول العسكرية بجهود قوات وصل عددها في بعض المراحل إلى 5100 فرد، وكان أقصى نجاح لها تصفية عدد من قيادات الجماعات المسلحة ومنهم زعيم القاعدة عبدالمالك دروكدال والمساعد الرئيسي لإياد غالي باه أغا موسى وبعض العناصر المعاونة من الصفين الأول والثاني، لكنها فشلت في تحسين الوضع الأمني بالمنطقة ووضع حدّ لتزايد نفوذ الجماعات المسلحة أو كبح خطط توسعها وتمددها.
وأعقب هذا الفشل إعلان فرنسا عن سحبها لقواتها من منطقة الساحل والصحراء، وهو ما أشعر المواطنين في مالي بأن باريس تتخلى عنهم في منتصف الطريق وفق ما ورد على لسان رئيس الحكومة المالية شوغل كوكالا، الأمر الذي دفع السلطات المالية إلى البحث عن بدائل وحلول للتحدي الرئيسي بالبلاد بعيدا عن الأجندة الفرنسية وتصوراتها.
واضح أن مالي تفكك شراكتها مع فرنسا وتطوي مرحلة من التدخل العسكري الفرنسي المباشر بدأت منذ العام 2013 بالإعلان عن التعاون مع كيانات أمنية بديلة مثل فاغنر الروسية أو بالانخراط في تسويات مع المسلحين المحليين، في إشارة تكشف الفشل الفرنسي في مالي بعد مقتل ما يقارب ثمانية آلاف شخص وتهجير الملايين من السكان وإغلاق المدارس وتعطيل المؤسسات وتنامي الإرهاب ضد المدنيين والقوى الأمنية.
نصر للجهاديين
يُحسب لجوء الحكومة المالية الانتقالية إلى التفاوض مع الجماعات المتطرفة المسلحة إخفاقا لفرنسا على العديد من المستويات، خاصة على مستوى إحداث فارق واختراق لملف التدخل الخارجي لتقويض الجماعات الإرهابية وإعادة بناء الجيوش وتأهيلها لمحاربة الإرهاب، ويُحسب هذا في المقابل نجاحا وانتصارا نوعيا للجماعات المسلحة، وخاصة الإثنية والقومية التي ارتبطت قبل سنوات بعلاقات مع تنظيم القاعدة.
وفرضت تلك الجماعات على فرنسا الانسحاب من منطقة حيوية بالنسبة لها وعدّتها إحدى المناطق الاستراتيجية فائقة الأهمية التابعة لها في سياق موازين قوى مراحل ما بعد الاستعمار، ونجحت في جرّ الحكومة المالية إلى طاولة التفاوض على غير رغبة باريس بعد أن بات الحل الوحيد لحقن الدماء ووقف العنف وفرض الاستقرار للتفرغ للتنمية إيجاد تسوية مع قادة الجماعات المسلحة المؤثرة، وهو التصور الذي يعتنقه غالبية السياسيين في مالي وجمعيات المجتمع المدني وقادة دينيون في مقدمتهم الإمام محمود ديكو الذي له تأثير واسع في الشارع المالي.
ويعدّ التفاوض المباشر مع الجماعات المسلحة، الذي طالب به مؤتمر عقد عام 2017 بمشاركة قوى سياسية ومدنية ثم أكده مؤتمر الحوار الوطني الجامع بعد عامين عندما يجري اعتماده الآن بعد تأجيله بسبب معارضة فرنسا، انتصارا نوعيا لجماعتي إياد غالي وأمادو كوفا اللتين رفضتا وقف العمل المسلح والدخول في خط الهدنة والمصالحة طوال عمل القوات الفرنسية، وتقع دعوتهما إليها من موقع قوة عقب انسحاب القوات الفرنسية.
ومن المرجح أن تعزز هذه الخطوة من نفوذ غالي الذي كان السبب الرئيسي في التدخل العسكري الفرنسي، عندما استطاع السيطرة على شمال مالي عام 2012 وطرد حركة تحرير شمال مالي من مواقعها التي استولت عليها، بادئا التمدد إلى وسط البلاد وجنوبها، ومنتقلا من نموذج الفعل السياسي التقليدي تحت عناوين ومطالب ذات صبغة قومية إلى النشاط المسلح في سياق تحالفات مع تنظيمات تكفيرية عابرة للحدود وتحديدا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
وبرز دور غالي بقوة للمرة الثانية خلال عام 2015 بعد أن كادت الحكومة المالية بضغط عسكري من فرنسا تتمكن من احتواء حركة التمرّد عبر استخدام القوة العسكرية المدعومة فرنسيا ومن خلال الوعود السياسية التي تضمنها اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة المالية وجماعات التمرد، لكن غالي كان له تدبير في اتجاه آخر عندما نجح في إعادة تنظيم الجماعات المسلحة ونشرها في البلاد.
وزاد على ذلك ما أنجزه بعدها بعامين عندما قام بتوحيد مجموعات مختلفة من المقاتلين بما فيها كتيبة ماسينا بقيادة كوفا والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، تحت راية تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
صار غالي هو العدوّ الرئيسي لفرنسا منذ ذلك الحين ليس في مالي فحسب بل في منطقة الساحل الأفريقي؛ لأنه أفرغ كل جهود وإنجازات القوات الفرنسية على الأرض من مضمونها؛ فرغم تحرير باريس كبريات مدن شمال مالي استطاع الرجل عبر جهود تحالفه الموسع الذي بات واحدا من أكثر الجماعات التابعة للقاعدة نشاطا، أن يوطّد نفوذه وحضوره في هذا الإقليم الصحراوي المتشعب عبر تشتيت جهود فرنسا العسكرية على امتداد مساحات شاسعة ليس في دولة واحدة بل في خمس دول أفريقية.
وبعث غالي حركة رفض وغضب ضد الوجود الفرنسي في المنطقة وغذتها عوامل أخرى عديدة مستميلا المئات من الشباب في شمال ووسط مالي ومركزا نشاطه على عمليات خطف الرهائن الأجانب والتهريب غير الشرعي، وهو ما مكنه من نشر حركية تمرده ومنهجيتها في جزء كبير من منطقة الساحل، مستوليا على مساحات شاسعة من الصحارى في شمال البلاد، ومتجاوزا نفوذ ونشاط الجماعة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، والأهم أنه جعل فرنسا تخسر رهاناتها بشأن رفض أي تفاوض معه.
وتحدث ماكرون في هذا السياق عن غالي أثناء قمة جمعته مع قادة دول غرب أفريقيا في نجامينا بتشاد منتصف فبراير الماضي، عندما حث القادة المجتمعين على عدم الدخول في مفاوضات مع غالي زعيم الطوارق وكوفا زعيم كتيبة ماسينا، قائلا إنهما “ليسا محاورين ممكنين بأي حال من الأحوال”.
عندما تنشئ الحكومة المالية هيئة لإجراء محادثات من الزعيمين اللذين حددهما ماكرون رافضا الحوار معهما، ويصف أحد المسؤولين في الحكومة المالية مؤخرا عملية التفاوض بأنها “مطلب شعبي مع أشقائنا الذين انضموا إلى الجماعات المتطرفة”، فإن ذلك يعد انتصارا رمزيا لإياد غالي بالنظر إلى موقف ماكرون الشخصي منه ومن مجموعته؛ حيث فرض بعد تحديه للوجود الفرنسي في مالي والمنطقة على الأطراف المحلية والحكومة أمام ضعف الدولة وتراجع قدرات جيشها وانهيار الاستقرار والأمن، توجها يناهض إرادة فرنسا ورئيسها.
مكاسب ومعوقات
صار في عداد المؤكد انخراط الحكومة المالية في جولات تسوية وتفاوض مع جماعتين رئيسيتين هما جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بقيادة غالي التي تعد أكبر تنظيم إرهابي في شمال مالي وجماعة تحرير ماسينا بقيادة كوفا واستثناء تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى التابع لداعش، والذي ينشط أيضا من خلال تنفيذ عمليات بدول جوار مالي خاصة النيجر وبوركينافاسو.
لا يقدر أحد الآن على التنبؤ بما سيجري خلال مفاوضات لم تتضح بعد ملامحها ولا مدى ما يمكن أن تمنحه السلطات في مالي لجماعتين محليتين كبيرتين سعيا للاستقلال بما تحت أيديهما من أراض إشباعا لطموحات قومية ولتطبيق الشريعة الإسلامية وفق تصوراتهما المستقاة من مناهج القاعدة، في سبيل استعادة السلام ووقف حد لعمليات التفجير التي تُنفذ حاليا بشكل يومي.
تتطلع الحكومة المالية لجني ثمار وقف التمرد المسلح في شمال البلاد ووسطها من أجل اكتساب شرعية سياسية وشعبية على الأرض، بالنظر إلى أن السكان هم من يدفعون فواتير الصراعات المسلحة الدموية من واقعهم اليومي ومن أرواح ذويهم، علاوة على الرفض الشعبي للوجود الفرنسي وتوجهات فرنسا التي باتت منعزلة عما يجري على الأرض.
وإذا تمكنت الحكومة المالية عبر المفاوضات المرتقبة من تحييد إياد غالي وأمادو كوفا ومجموعتيهما عبر صفقة سياسية، فهي بذلك تخترق الحالة الجهادية المسلحة وتعزل الجماعات المحلية عن الوافدة والكيانات الإثنية القومية عن تنظيم داعش بما ستمنحه لإياد غالي من مزايا ومكاسب سياسية يتمكن بها من السيطرة ومن تهميش وإقصاء الجماعات الأخرى وهو ما سيسهم في تخفيف الضغوط على القوات والحكومة المالية.
قد تعتبر دول جوار مالي أن هذه المكاسب خاصة بالداخل المالي بالنظر إلى أن تهميش داعش في مالي ربما يدفعه إلى التركيز على تنفيذ عمليات في بوركينا فاسو والنيجر، وهذا يعوق حصول إجماع إقليمي حول ملف التسوية والحوار مع الجماعات المسلحة.
مالي التي تعد المتحمسة الوحيدة للحوار والتسوية السلمية مع الجماعات المسلحة في حاجة إلى إقناع دول الجوار التي ينشط فيها الإرهاب مثل بوركينافاسو والنيجر والدول الساحلية مثل السنغال وكوت ديفوار وغانا، بالتعاون معها على أرضية تفكيك الحالة الجهادية المسلحة في أفريقيا واختراقها وإضعافها من الداخل وتحييد البعض منها للتفرغ للبقية.
وهي أيضا في حاجة إلى أوراق قوة ومساومة تدخل بها المفاوضات التي لن تكون سهلة مع كيانات باتت تروج أنها هزمت فرنسا وأجبرتها على الانسحاب من مالي ودول الساحل غرب أفريقيا، وعلى الرغم من قبول إياد غالي مبدأ التفاوض إلا أنه أعلن شروطا تبدو صعبة التحقق، وعلاوة على مطلب انسحاب القوات الأجنبية طرح شرط تطبيق الشريعة الإسلامية في عموم مالي.
هشام النجار
كاتب مصري