حركة النهضة هي وحدها المستفيدة مما يحدث، وهي التي تراقب مراحل نضوج الثمرة لتقطفها في الوقت المناسب، وقد أخذت الضوء الأخضر من الدوائر الخارجية التي يبدو أنها صدقت شعار الإسلام الديمقراطي.
لا شيء يوحي بأن الانتقال الديمقراطي في تونس يسير في الاتجاه الصحيح، فأغلب المعطيات تشير إلى أن البلاد تتجه إلى نفق سياسي واقتصادي واجتماعي يصعب تجاوزه، نتيجة عجز النخبة وغياب المشاريع الحقيقية القادرة على التأسيس للحلول الفعلية للأزمات، وحالة الانقلابات المتداخلة التي أفرزتها مراهقات سياسية بدت عاجزة عن تسيير شؤون الدولة وبعث الأمل في الشعب ليتجاوز وضعيته المعقدة.
التعديل الحكومي الذي أعلن عنه رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الاثنين الماضي، كشف مستوى التردي الذي بلغته الساحة السياسية، فرغم أن الشاهد مارس حقه الذي يكفله له الدستور، فقد أعلنت رئاسة الدولة عن رفضها للتعديل، واعتبرت حركة نداء تونس الفائزة في انتخابات 2014 ما قام به رئيس الحكومة انقلابا قادته حركة النهضة، ورجح البعض أن يرفض الرئيس الباجي قائد السبسي استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه، وهو ما يبدو غير منطقي، خصوصا وأن السبسي هو الذي فتح باب التوافق على تقاسم السلطة مع الإسلاميين منذ لقاء باريس الذي جمعه مع راشد الغنوشي صيف 2013، وهو الذي جاء بالشاهد في صيف 2016 ليجعل منه بديلا للحبيب الصيد، كما أنه مسؤول بشكل أو بآخر عن الوضع المأساوي الذي وصل إليه حزب حركة نداء تونس بعد أن دفع إليه بنجله حافظ، وحاول أن يعطيه امتدادا أسريا سرعان ما تسبب في تصدعات عصفت بالقيادات المؤسسة، وقلصت من حجم الكتلة البرلمانية، وفتحت أمام حركة النهضة مجالا للتغلغل في مفاصل الدولة وتصدّر الانتخابات البلدية ثم التحكم في مراكز النفوذ.
انقلب نداء تونس على ناخبيه عندما خضع للضغوطات الخارجية وللطموحات الشخصية وقرر التحالف مع حركة النهضة، وانقلب السبسي على رفاقه في تأسيس الحزب عندما دفع بنجله إلى مقدمة الصفوف، ما جعلهم ينسحبون الواحد تلو الآخر لبعث أحزاب أخرى، أو للمتابعة عن بعد، وانقلب العشرات من النواب على كتلتهم داخل مجلس نواب الشعب في إطار ما سمي بالسياحة البرلمانية، التي تعتبر واحدة من أسوأ إفرازات الانتقال الديمقراطي في البلاد.
وتلبية لرغبات المقربين، انقلب الرئيس السبسي على أول رئيس حكومة بعد انتخابات 2014، وهو الحبيب الصيد، وأجبره على ترك منصبه، ثم جاء بالشاهد الذي اختار بدوره أن ينقلب على السبسي وعلى حركة نداء تونس معا، وأن يتحالف مع حركة النهضة، مانحا إياها أكثر مما تطمح إليه، ثم انقلب عدد من النواب على كتلتهم ليشكلوا كتلة جديدة هدفها إسناد رئيس الحكومة، وانقلب الغنوشي على حليفه السبسي وتركه معزولا في قصر قرطاج بعد أن تبين له أن صلاحية التوافق معه قد انتهت، كما انتهت سابقا صلاحية التحالف مع حزبيْ المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر في مرحلة حكم الترويكا بعد انتخابات 2011.
يدرك المشرفون على نداء تونس أن وزراءهم في الحكومة سينقلبون عليهم في حال دعوتهم للاستقالة والتخلي عن الشاهد، كما حدث سابقا مع أحزاب أخرى، حيث كان وزراء آفاق تونس قد اختاروا الاستقالة من حزبهم على ترك كراسيهم، والأمر ذاته، قام به الوزير القادم من الحزب الجمهوري إياد الدهماني عندما تخلى عن انتمائه الحزبي مقابل الإبقاء على منصبه كناطق رسمي باسم الحكومة، وحتى الأمين العام لحزب المسار سمير بالطيب، تمرد على حزبه ليحافظ على حقيبة الفلاحة، وهو ما يؤكد أن الانضباط الحزبي غير وراد لدى أغلب الفاعلين السياسيين وفي أغلب الأحزاب، ما عدا حركة النهضة ذات التجذر الأيديولوجي الإخواني المبني على مبدأ الولاء والطاعة.
هذا الوضع يثبت أن الساحة السياسية التونسية تواجه أزمة قيم، وتعاني من حالة استسهال لإدارة الشأن العام أدت إلى غياب الرؤى القادرة على إخراج البلاد من المأزق الذي تتخبط فيه منذ عام 2011، وتتسع فيه دائرة تشتت الصفوف سواء داخل المعارضة أو الموالاة، بينما تبقى حركة النهضة وحدها المستفيدة من ذلك، وهي التي تراقب مراحل نضوج الثمرة لتقطفها في الوقت المناسب.
أما الرئيس السبسي فهو يعلم أن أغلب الأوراق قد سحبت من يديه، فالقاعدة الشعبية التي أوصلته إلى قصر قرطاج انفضت من حوله بسبب تحالفه مع الإسلاميين الذين كان يقول إنه يسير وإياهم في خطين متوازيين لا يلتقيان، وفقد الأمل في أن يكون رئيس الحكومة الشاب الذي جاء به طوع أوامره، وفقد الجانب الأهم من قوة الحزب الذي أسسه لإحداث التوازن السياسي في البلاد، وحتى الحلفاء في الخارج لم يعد لديهم ذلك الحماس في التنسيق أو التشاور معه، بعد أن باتت حركة النهضة تزايد عليه في تقدميته وحداثيته، ولا ترى مانعا من أن تمارس كل أشكال التبعية للقوى الكبرى، طالما ذلك سيساعدها على تكريس النموذج الأردوغاني في تونس، رغم أن قاعدتها الانتخابية في بلديات 2018 لم تتجاوز 518 ألف صوت.
النتيجة من كل ذلك؛ سقوط دراماتيكي للرموز وصراع على السلطة بين نخب فاشلة، وتجاذبات لا تزيد الشعب إلا نفورا من التعاطي مع الشأن العام، وغياب للفكر والرؤية، وحالة ارتباك في السلطة والمعارضة وعجز على تكريس المؤسسات وتضييق متواصل على معيشة المواطن وضبابية للمشهد على مسار انتقالي متشعب.
الحبيب الأسود / كاتب تونسي