الصحافة المكتوبة غائبة كمصدر للتونسيين في الانتخابات المحلية، وفيسبوك على رأس المصادر الإخبارية ثم التلفزيون فالإذاعات.
يكيل التونسيون الكثير من التهم لإعلام بلادهم، ويعتبرونه ممثلا للسياسيين وليس لهم، وما ينقله لا يتعدى الخصومات بين أفراد الطبقة الحاكمة، وهدفها تصفية حسابات لا علاقة لها بكسوة الناس ولا بكسرتهم ولا بدوائهم.
تونس – عند البحث في غوغل عن عبارة “إعلام العار” نعثر على مليونين و320 ألف نتيجة في أقل من ربع ثانية، وإعلام العار عبارة رددها التونسيون كثيرا واصفين بها الإعلام غداة 14 يناير 2011 ومازالت تلازمه وإن خف استعمالها لفظا.
وحسب استطلاع رأي أجرته مؤسسة “بر الأمان” في سبتمبر الماضي، فإن 35 بالمئة من التونسيين لا يثقون مطلقا في وسائل إعلامهم. أفلا يُحمّل التونسيون إعلامهم أوزارا فوق الأوزار التي يُسأل عنها ضرورة؟
يصعب أن تجد على الشبكات الاجتماعية تدوينة تناصر الإعلام التونسي، حيث يتهمونه بالتفاهة والابتذال والغباء والبحث عن المظاهر والفساد والكذب وغيرها من التهم الكثيرة. ويكثر الحديث الآن عن إعلام اللوبيات “الكناترية” (المهربون بالعامية التونسية) وبلغ الحديث في بعض الأوساط حد اتهام الحكومة بتلقيها أموالا بريطانية يُقال إنها تغدقها على بعض الإعلاميين والمؤسسات لمساندة رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وقد لا يكون غضب التونسيين على إعلامهم أشد قسوة من غضب الأميركيين على إعلامهم، إذ يعتقد 59 بالمئة منهم أن الإعلام يكتفي بنقل آراء السياسيين والصناعيين. وتبين هذه المقارنة في عمليات استطلاع الآراء أننا نعلم سبب غضب الأميركيين على إعلامهم في حين أننا نجهل سبب ذلك لدى التونسيين لأن من يسبر آراءهم لا يسألهم عن ذلك، فمؤسسة “بر الأمان” اكتفت بسؤال المستجوبين عن تطلعاتهم بشأن الإعلام دون سؤالهم عمّا يغضبهم فيه.
ويظهر من هذا أن الأمر لا يتعلق في الواقع بوسائل الإعلام وحدها بل بقطبين آخرين هما الرأي العام والفاعلون السياسيون. ففي بلد مثل تونس، التي تعيش وضع انتقال ديمقراطي، لم يتعود الناس على أن للإعلام دورا يتصل بخصوصية تلك المرحلة، دور لا يمكنه أن ينجح في أدائه طالما أخلّ الفريقان الآخران بما هو ملقى على عاتقهما.
ففي دراسة أجراها المعهد الجمهوري الدولي في 2014 تبين أنّ 46 بالمئة من التونسيين لم يسمعوا أبدا شيئا عن أعمال المجلس الوطني التأسيسي التي امتدت على أكثر من عامين وأفرزت دستورا جديدا للبلاد.
ويؤكد هذا الأمر استطلاع رأي أجرته مؤسسة “بر الأمان” الذي يذكر أن 44 بالمئة منهم لا يتابعون الحياة السياسية مطلقا. ويمكن القول أيضا إن نسبة المشاركة الضعيفة (30 بالمئة) في الانتخابات المحلية في مايو 2018 مؤشر على ذلك العزوف السياسي الذي أثبتته الدراستان المذكورتان.
وإذا كانت نسبة ضئيلة من المواطنين لا تتجاوز العشرة بالمئة تتابع شؤون الحياة العامة فسيكون من الطبيعي ألا يهتم الإعلام بها الاهتمام الذي يقتضيه بناء المسار الديمقراطي السليم المبني على النقاش العام. وننسى أحيانا كثيرة أن الإعلام هو الذي جاء بالديمقراطية غير أنه لم يأت بها من عدم.
ففي أوروبا ظهر مفكرون كثر بداية من القرن السابع عشر لنقد أساليب الحكم فيها داعين إلى ضرورة وضع حد للاستبداد. وواكب تلك المرحلةَ التي عرفت بعصر الأنوار تطورٌ بطيء لكنه ثابت في النشر. كما واكبته ظاهرة “أدب الصالونات” وغيرها من أدوات المشاركة السياسية في نهاية ذلك القرن منها “لائحة الحقوق” في بريطانيا في 1687 التي نصت على حق المواطنين في إمضاء العرائض وعرضها على الملك.
وأداء إعلامي ضعيف تحت سقف اهتمام منحسر بالشأن العام في ظلّ أداء سياسي ضيق، لا يرقى إلى تطلعات الناس. فعلى امتداد شهور بل أكثر تجد أن مضامين الأخبار المنشورة في الصحف والتلفزيونات والإذاعات والمواقع الإخبارية على الإنترنت تكاد لا تتعدى الخصومات بين أفراد الطبقة الحاكمة، خصومات شخصية هدفها تصفية حسابات لا علاقة لها بكسوة الناس ولا بكسرتهم ولا بدوائهم.
ويبدو أن ثقافة معظم السياسيين تعجز عن إدراك أن نشأة الديمقراطية أدت مباشرة إلى ظهور الرأي العام كأبرز مكونات العمل السياسي. جهل ذلك الأمر يأخذهم إلى الاعتقاد بأن الرأي العام هو مجرد خزان انتخابي لا يُعار اهتماما إلاّ في الحملات الانتخابية قبل الاقتراع. وكذلك شأن المؤسسات الإعلامية فينسى الجميع، سياسيين وإعلاميين، المواطنين وتكون القطيعة التي تقتل النقاش العام وتحيد ضرورة بالإعلام عن دوره في بناء الديمقراطية.
ومن مظاهر تعثر الطبقتين السياسية والإعلامية في الإسهام في بناء مجال عام في تونس لاحتضان النقاش العام أن يُجرى حوارٌ مع رئيس الجمهورية مدته أكثر من ساعة حول ثلاثة أشخاص. ففي ذلك الحوار الذي بثته قناة الحوار التونسي على المباشر يوم 24 سبتمبر 2018، بعد يومين فقط من الفيضانات التي هزت محافظة الوطن القبلي، لم يغادر الحوار ثلاثة أشخاص هم رئيس الحكومة يوسف الشاهد وابن رئيس الجمهورية حافظ قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.
ومن مظاهر ذلك التعثر أيضا أن الحوارات مع أصحاب القرار البارزين تكاد تكون حكرا على التلفزيون. وقته قصير خلافا للمكتوب الذي يمكّن من التعمق في الأمور ومن معالجة المادة الإعلامية السياسية من زوايا متنوعة بمشاركات متعددة لإبراز حوار ثري ومتعدد. فالتلفزيون لا يبعث على التفكير كالمكتوب.
المشكلة هنا أن التونسيين لا يقرأون إلاّ نادرا. ففي سبر آراء مؤسسة “بر الأمان” نكتشف أن الصحافة المكتوبة غائبة تماما كمصدر للتونسيين في الانتخابات المحلية مقابل وجود فيسبوك على رأس المصادر ثم التلفزيون فالإذاعات.
وفي دراسة المعهد الجمهوري الدولي نجد أن 1 بالمئة فقط من التونسيين استخدموا الصحافة المكتوبة كمصدر للأخبار لمتابعة أشغال المجلس الوطني التأسيسي. وعزوف الناس عن الشأن العام وترهل أداء السياسيين لا يُعفيان الإعلام من مسؤولية التقصير في الإسهام في إنشاء تلك الديناميكية التي يمكن أن تخرج به من دائرة إعلام التدوين أو النقل.
ومكوثه في ذلك الوضع يجعل منه مجرد ساعي بريد، لكن يمكن للإعلاميين أن يكسروا تلك الحلقة المفرغة بالذهاب إلى أبعد من نقل أقوال السياسيين. الإعلام ليس وحده بل على الجميع أن يدرك أن القضية هي قضية ثالوث: الرأي العام والفاعلون السياسيون والإعلام. وهي قضية اتصال سياسي ثم قضية إعلامية.
محمد شلبي / باحث تونسي في الإعلام