الصفحة 2 من 3
بدائل غائبة
ما تزال قيادات هذه المجموعات في حالة ارتباك كمن لا يصدق فوزه وبهذه الأرقام المحددة في تشكيل البرلمان والحكومة والمرحلة المقبلة ككل (التيار الديمقراطي 21/ ائتلاف الكرامة 21، وحركة الشعب 16)، خاصة أن هذا الامتياز سيخرجها إلى العلن ويجعلها تحت الضغط الإعلامي والسياسي والشعبي. كما أنها مهددة بفقدان المربع المريح الذي مكنها من الصعود، مربع “الحزب النظيف” الذي يستثمر الإحصائيات والتقارير وشهادات الخبراء والمحللين للهجوم على التحالف الحاكم السابق.
وبدا الارتباك واضحا لدى ممثلي هذه الأحزاب والمجموعات الصغيرة في الحوارات التلفزيونية في الأيام الثلاثة الماضية بشأن دورها المستقبلي، وهل أن شعاراتها بشأن الحرب على الفساد وإعادة تصويب الخيارات الاقتصادية والاجتماعية ستمر للتنفيذ أم لا.
ويهرب هؤلاء الممثلون إلى النقاش بشأن المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومة بدل الاستفاضة في شروط التغيير الذي يفترض أن يكون محور الحكومة القادمة، ولأجله تقدمت هذه المجموعات للتنافس على الوصول إلى البرلمان.
لا أحد يعرف ماذا يريد وكيف يمكن أن يساهم ولو بدور ثانوي في تغيير الوضع، وهذا منطقي لأن غالبية الطبقة السياسية الحالية هي سليلة المعارضة التقليدية التي عارضت الزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة ومن بعده نظام حكم زين العابدين بن علي، وكان دورها اللعب على توظيف أخطاء السلطة في الداخل والخارج، وخاصة المسائل الحقوقية، وليس الاشتغال على بدائل حقيقية يمكن أن تعدل بوصلة الانفتاح الليبرالي المغالي للدولة ومواجهة خيار الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الذي يتم تنفيذه إلى الآن بضغوط من الصناديق المالية الدولية، أو سبل استفادة متكافئة من الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
وليس هناك مؤشرات على أن هذه المعارضة (التي بات أغلبها الآن في السلطة) قد غادرت مربعها الأول، مربع تسجيل النقاط على الحزب الحاكم، وهو ما يجعل مجموعة مثل حركة الشعب التي تقول إنها تمتلك رؤى ومقاربات فكرية تفصيلية جاهزة، تتلكأ في القبول بمغامرة السلطة، لأن ذلك سيضع موضع اختبار ثقافة إخوان الصفا السرية التي تبشر بالتغيير الشامل، لكن حين تخرج للضوء تتغير مساراتها، تماما مثلما حصل الأمر مع حركة النهضة بعد 2011.
ويبدو الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة إلى ائتلاف الكرامة الذي لا تجمع بين منتسبيه ونوابه الصاعدين سوى شعارات عامة عن “حماية الثورة” ومواجهة الفساد، وسيكون دورهم الرئيسي إسناد النهضة في البرلمان وتشكيل الحكومة، لكنهم سيمثلون صداعا كبيرا لها بشروطهم الصدامية في مواجهة الدولة العميقة التي لا تقدر أي جهة على الحكم دون قنوات تواصل معها.
وتجد حركة الشعب والتيار الديمقراطي مبررا قويا في التهرب من دخول حكومة مع حركة النهضة، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن الحملات الانتخابية التي قادها التياران كانت تقوم على القطيعة مع أحزاب التحالف الحاكم السابق، لأن أي تنسيق أو تحالف سيعني إضفاء شرعية على منظومة الحكم السابق بأخطائها المختلفة، والتي تعتقد التيارات الصاعدة أنها جاءت لإصلاح تلك الأخطاء وإعادة تصويب مسارات التغيير المختلفة.
لكن الأهم هو التخوف من حركة النهضة التي توصف بالأخطبوط لكونها تمتلك قدرات عجيبة على استيعاب خصومها وتوظيفهم لخدمة خططها وأجنداتها المعلنة والخفية، ما يؤدي إلى تفتيت من يتحالف معها مثل أحزاب الترويكا (المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل) ثم نداء تونس.
وإضافة إلى العداء التاريخي بين حركة الشعب كتنظيم ناصري وبين النهضة ذات الخلفية الإخوانية، فإن مخاوف القوميين من التحالف مع الإسلاميين تتزايد بسبب ما بات يعرف بالأخونة والتسلل إلى مؤسسات حيوية في الدولة والسيطرة عليها، ما يمكّن النهضة من إحكام قبضتها على مدى استراتيجي.
ولا تريد حركة الشعب والتيار الديمقراطي أن يمثلا رافعا لهذه الأخونة والتمكين للإسلاميين، ما يضعهما في مواجهة مباشرة مع الأنصار وقد يؤدي إلى انسحابات وانشقاقات تؤثر على نفوذهما في البرلمان. كما يضعهما التحالف مع حركة النهضة في مواجهة مع تيارات أخرى صديقة في البرلمان أو في الساحة السياسية، وقد يعرض تحالفات حركة الشعب في قطاعات حيوية في اتحاد الشغل إلى هزات تقلص من تمثيلها الوازن.
ونعتقد أن التيار الديمقراطي، الذي سبق أن تحالف رئيسه محمد عبو مع النهضة في فترة حكومة الترويكا، قادر على استيعاب أي صدمات من تحالفه مع الحركة لأنه ليس تيارا أيديولوجيا حديا. كما أن قياداته باتت تمتلك قدرة على المناورة السياسية، وهو ما كشفته شروط عبو التعجيزية مثل المطالبة بوزارات حيوية كالداخلية والعدل والإصلاح الإداري، فضلا عن رئيس حكومة مستقل، وهو ما يعني تحييد النهضة عن الحكم، وحصولها على أدوار ثانوية مقابل تحميلها مسؤوليات الفشل الحكومي، وطبعا هذه شروط لم تقبل بها، وهو ما يعطي مسوغا لمقاطعة التيار حكومة تشرف عليها الحركة بشكل أو بآخر.
وسيكون الحرج الأكبر على حركة الشعب التي قد تعجز عن إقناع جمهورها بضرورة وضع اليد في يد الخصم التاريخي لضرورة المصلحة الوطنية، أو الاستفادة من ضعف النهضة لتحقيق مكاسب ذات بعد استراتيجي بفتح باب التسلل إلى مؤسسات عليا في الدولة بأريحية أفضل وبعيدا عن ضغوط الإعلام، خاصة أنها تمارس أخونة للحساب الخاص.
وفي مقابل ذلك، حرصت النهضة على تبديد الضغوط التي تمارس عليها من المجموعات الصاعدة. وقال قياديون في الحركة خلال ظهور تلفزيوني إن النهضة لن تتنازل تحت أي ابتزاز ولا مشكلة لها في العودة من جديد للشعب في انتخابات جديدة، أي أن الضغط عليها بالانتخابات المبكرة لا يقلقها.