مخاوف بعض الأحزاب من تراجع تمثيليتها داخل حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة يدفعها نحو شراء ذمم الصحفيين للتشويش على المبادرة.
نتقل الجدل حول حكومة الوحدة الوطنية التي طرحها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من دوائر الأحزاب السياسية إلى وسائل الإعلام التي انخرط بعضها في نوع من التعاطي أثار الكثير من الشكوك حول مصداقيتهم. بل وهناك من وجه أصابع الاتهام لبعض الاعلاميين في تونس بانجرارهم وراء أجندات أحزاب سياسية بعينها من شأنها تعطيل المسار الطبيعي والصحيح لمبادرة السبسي.
وتواجه المبادرة حتى الآن ردود فعل مختلفة بين مباركة مبدئية من قبل جملة من القوى السياسية والمدنية والشخصيات الوطنية ورجال الدولة، وبين رفض أو تشكيك في صدقية المسألة من قبل أطراف سياسية ومدنية أخرى. وينطبق هذا الواقع على المشهد الإعلامي الذي يؤيد بعضه طرح الرئيس ويشكك البعض الآخر في إمكانية نجاح الفكرة وفي قدرة السبسي على لم شمل العائلة السياسية حول بادرته رغم الخلافات العميقة بين عدد من الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة في تونس.
لكن بعض المتابعين يرون أن هناك بعض التيارات السياسية في تونس والتي تبدو متخوفة من حجم التمثيل الذي ستحصل عليه داخل حكومة الوحدة الوطنية، اتجهت إلى استخدام الإعلام كمطية لتوجيه الرأي العام نحو عدم الثقة في هذه المبادرة وطرح بدائل أو أطروحات تضمن تمثيلية ترضي طموحها السياسي.
ويضيفون أن هناك بعض الأحزاب السياسية التي تعودت منذ الانتخابات الأولى التي جرت في البلاد على سقف عالي من التمثيلية خول لها الإمساك بزمام الأمور وامتلاك ما يشبه الكلمة الفصل في العديد من الملفات السيادية، وبالتالي فهي ستجد نفسها فصيلا محدود التمثيلية والفاعلية في حال تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والتي من المقرر أن تطرح تمثيليات متقاربة لمختلف التيارات السياسية. ولهذا وحفاظا على حظها الكبير على مستوى القرار السياسي فقد اتجهت صوب شراء ذمم الصحفيين تارة وتشكيل مؤسسات إعلامية تخدم أجنداتها تارة أخرى، رغم عدم التصريح المباشر بذلك، على حد تعبيرهم.
وفي هذا الصدد يقول عبد المجيد النجار المتخصص في علوم الاتصال إن "حكومة الوحدة الوطنية لا تواجه فقط تعقيدات سياسية ناجمة عن ضغوط الأحزاب على الرئيس الباجي بل تواجه أيضا ضغوط ظاهرة صحفية وإعلامية فاسدة، وإن كانت محدودة، تسعى إلى الرفع من مزيد التعقيدات باتجاه التشكيك في خلفيات المبادرة وأبعادها خدمة لأطراف ليس من مصلحتها إنقاذ البلاد.
ويصنف النجار الصحفيين والإعلاميين المصطفين خلف الأحزاب إلى ثلاث فئات يصفها بـ"انتهازية المقيتة"، تعمل الأولى لحساب حركة النهضة التي تسعى إلى خلط الأوراق لصالحها، وتعمل الثانية لحساب شق من النداء يحاول ممارسة الضغط على الرئيس الباجي لإرباك مبادرته فيما تعمل الثالثة لحساب يساريين انهزاميين "ما زال يعشش فيهم النضال الإيديولوجي" من اجل إجهاض حكومة يرون فيها تمهيدا لمصالحة وطنية مع رجال بن علي.
ويستدرك النجار أن التقارير الصحفية والإعلامية المعدة سلفا بناء على إملاءات الأحزاب وأجنداتها لن تؤدي إلا إلى "التشويش" في ظل جهود جدية يقودها الرئيس الباجي من خلال مشاورات موسعة مع مكونات المشهد السياسي والمدني لتوفير أرضية سياسية مشتركة تكون كفيلة بإنجاح مبادرة تعد الأولى من نوعها منذ السنوات الخمس الماضية.
ويقول عدد من المراقبين أن فكرة حكومة الوحدة الوطنية على أهميتها إلا أنها وقياسا للوضع العام في تونس لا يمكن التعاطي معها على أنها المنقذ الحقيقي والوحيد للبلاد لا سيما وقد سبق وان أعلن السبسي نفسه بأن فشل الحكومة الحالية لا يعود إلى ضعفها أو تقصيرها وإنما يعود لظروف وصفها بالقاهرة.
وعليه لا ينفي المراقبون انخراط عدد من الإعلاميين في العمل تحت غطاء حزبي ولأهداف حزبية بحتة، قد تؤثر على نجاح المبادرة، ولكن يحذر هؤلاء من إدراج كل الأصوات الإعلامية التي لا تتفق مع مشروع حكومة الوحدة الوطنية في خانة الصحفيين المتواطئين مع أحزاب بعينها ولحسابات حزبية بحتة.
والمتابع للوضع في تونس يمكنه أن يتبين أن موجة الشك الكبيرة في كل ما يصدر عن النخبة السياسية بسبب فشلها لخمس سنوات في تحقيق المطالب الجوهرية التي طرحت إبان ثورة 14 يناير/كانون الثاني. والإعلام ليس بمنأى عن هذا الواقع، إذ يغلب الحذر اليوم على التعاطي الإعلامي مع المسائل السياسية ولا سيما تلك المتعلقة بالوعود وبالمشاريع التي لا توجد ضمانات حقيقية لإمكانية تحقيقها.
ويقول أغلب الإعلاميون التونسيون أن حقبة الاصطفاف وراء خيارات السياسيين دون وضعها موضع النقد والنقاش قد انتهى، ويصرون على لعب دور المحايد في الكثير من الملفات الكبرى على غرار حكومة الوحدة الوطنية. إذ يبرر بعض الصحفيين عدم تأييدهم للبادرة بالتفكك الكبير الذي يميز العائلة السياسية اليوم في تونس وفي ظل فشل كل التحالفات السابقة، الأمر الذي يجعل كل بادرة مشابهة عرضة للشك أو حتى الرفض.
شراء الذمم
لكن في المقابل يقول جملة من المتابعين للمشهد الإعلامي في تونس أن هناك الكثير من الصحفيين الذين لا يترددون في دخول حرب الأحزاب السياسية إما إيمانا منهم بأجندات حزب بعينه أو لغايات مادية بحتة، ويشددون على أن هذا الواقع تم تكريسه بشكل مكثف منذ طرح السبسي مبادرة حكومة الوحدة الوطنية.
ويعلق النجار على ذلك بقوله أن "أخطر الصحفيين والإعلاميين الانتهازيين هم من تحولوا إلى ما يشبه الناطقين باسم الإسلاميين وجزء من اليساريين الذين لم يترددوا سابقا في العمل مع أجهزة المخابرات والتقرب من عائلة بن علي قبل أن يقدموا أنفسهم على أنهم "ثورجيين" من ضحايا الرئيس السابق الذي يتحسر على رحيله جزء هام من الرأي العام رغم مضي خمس سنوات على الإطاحة بنظامه في ظروف غامضة.
ويرجع الأخصائي استخدام المال إلى فشل الأحزاب في كسب ثقة غالبية الرأي العام مشددا على أن تفشي ظاهرة شراء الذمم لا يقتصر على إستكتاب عدد من الصحفيين بل أيضا تشمل فرض هجرة نواب أحزاب إلى أخرى بمبالغ مالية مغرية تتراوح ما بين ما بين 50000 و25000 دولار للنائب الواحد، إضافة إلى رشاوي تقايض الاصطفاف بشراء الشقق والسيارات.
ولا يتردد عبد المجيد النجار في التشديد على أن بعض الصحفيين الفاقدين للمهنية قد انزلقوا في خطر تحريض مبطن من قبل سفارات عربية وأجنبية معادية للتجربة التونسية من اجل تقديم حكومة الوحدة الوطنية على أنها تهديدا للدولة والديمقراطية الناشئة متجاهلين أن تاريخ أداء الدولة التونسية وتراكم تجربتها السياسية يحول ضد أي شكل من أشكال الفوضى التي عبثت بعدد من دول الربيع العربي.
يؤكد عبد المجيد النجار أن الرئيس التونسي يدير خلال هذه الفترة مبادرته بالتنسيق مع الجميع بقبضة من حديد من شأنها أن توفر أوفر الحظوظ لتركيبة حكومة وحدة وطنية تحقق الحد المطلوب من الرضا السياسي والشعبي.