تعتبر قضايا الكفالة والتبني من المواضيع الاجتماعية والقانونية الشائكة التي تتطلب دراسة معمقة وشاملة، خاصة في ظل التحديات القانونية والاجتماعية التي تطرأ في هذا المجال، فالتعامل مع الأطفال المكفولين في المجتمع التونسي لا يرتبط فقط بجوانب الرعاية والرغبة في توفير حياة أسرية بديلة، بل يشمل أيضا التزاما قانونيا وإنسانيا يتطلب التنسيق بين المؤسسات القضائية والاجتماعية لتأمين حقوق الطفل وتوفير بيئة آمنة وسليمة؛ وفي هذا الإطار نظم معهد الدراسات العليا بتونس ملتقى علميا متخصصا حول الكفالة والتبني بهدف تسليط الضوء على الجوانب القانونية والاجتماعية والنفسية لهذه القضايا بالإضافة إلى مقاربة التحديات المتعلقة بها في سياق التشريع التونسي.
مقالات ذات صلة:
الجيش التونسي ينجح في العثور على الطفل المفقود في القصرين
إدوارد تيرتاناتا.. من طفل مُهمَل إلى ملياردير القهوة في إندونيسيا!
في الجلسة الأولى من الملتقى، تم تناول الدور المحوري الذي تلعبه الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بالإضافة إلى مندوبية حماية الطفولة في تونس في مجال رعاية الأطفال المكفولين، لتكون المداخلات مفصلة وشاملة حيث تم التركيز على الدور الفعال للمندوبية في ضمان حقوق الطفل ومتابعة قضايا الكفالة والتبني، فمن خلال آليات العمل المتبعة تظهر المندوبية كحجر الزاوية في هذه المنظومة، اذ انها تضمن تطبيق الإجراءات القانونية المتعلقة بالكفالة وتراقب تنفيذها في مختلف الحالات؛ وفي هذا السياق تم تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها النظام القانوني في ضمان حقوق الطفل المكفول خصوصا في ظل الضغط المتزايد على المؤسسات المسؤولة عن الرعاية الأسرية البديلة.
من جهة أخرى، تم عرض تجارب بعض الجمعيات غير الحكومية التي تساهم بشكل فعّال في رعاية الأطفال المكفولين، فقد أظهرت هذه التجارب كيف أن هذه الجمعيات تلعب دورا مكملا للدولة في توفير بيئة آمنة للأطفال، وتتضمن هذه الرعاية جوانب متعددة مثل الدعم النفسي والاجتماعي بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي تتيح للأطفال المكفولين فرصا متكافئة في التعليم والنمو، وتعتبر هذه الجمعيات بما فيها برامجها المخصصة للأطفال المكفولين حلقة وصل أساسية بين السياسة العامة لرعاية الأطفال وحاجات الأطفال الفعلية؛ وفي هذا السياق برزت التوصيات التي تدعو إلى ضرورة تحسين الدعم المادي والمعنوي المقدم لهذه الجمعيات لضمان استدامة عملها وجودة الخدمات المقدمة.
كما تمت الإشارة إلى الأبعاد النفسية والاجتماعية المترتبة على وضعية الطفل المكفول، ففي العديد من الحالات قد يواجه الطفل المكفول صعوبة في التأقلم مع البيئة الأسرية الجديدة مما يعكس ضرورة وجود برامج متخصصة تهدف إلى التخفيف من صدمات فقدان الوالدين أو التفكك الأسري، ويترتب على ذلك ضرورة تعزيز الجهود التي تهدف إلى إعادة تأهيل الأطفال على المستوى النفسي مما يساهم في تسهيل اندماجهم في المجتمع وفي توفير فرص النمو الكامل بعيدًا عن أي صدمات نفسية.
هذا وانتقلت الجلسة الثانية من الملتقى إلى دراسة الأبعاد القانونية المتعلقة بالكفالة والتبني في تونس، حيث تم تسليط الضوء على المسائل القانونية المتعلقة بحقوق الطفل في إطار الكفالة وكيفية تعامل النظام القضائي مع قضايا التبني وتم التأكيد في هذا السياق على أن التشريعات التونسية رغم أنها تقدم إطارا قانونيا شاملا للكفالة والتبني إلا أن هناك تحديات واقعية مرتبطة بتطبيق هذه التشريعات على أرض الواقع.
تظهر النقاشات أن التشريع التونسي فيما يتعلق بالكفالة قد مر بعدة مراحل تطور لكنه لا يزال بحاجة إلى تحديث وتكييف مع التغيرات الاجتماعية والإنسانية الحديثة، وتناولت المداخلات تأثير النصوص القانونية على الممارسات القضائية في القضايا المتعلقة بالكفالة والتبني، حيث تم التأكيد على أهمية ضمان المصلحة الفضلى للطفل من خلال العمل القضائي والحرص على أن تكون كل الإجراءات القضائية تتماشى مع التوجهات الحديثة في مجال حقوق الطفل، وأشار المشاركون إلى أن فهم القضاة لهذه القضايا يجب أن يتجاوز مجرد التطبيق الحرفي للنصوص ليشمل تقديرا حقيقيا لواقع الطفل وظروفه الشخصية وهو ما يشكل تحديا أمام القضاء في ظل تنوع الحالات المعروضة عليه.
وفي موازاة ذلك، تناولت المداخلات أيضا التفاعل بين الكفالة في القانون التونسي والشريعة الإسلامية، بينما تلتزم القوانين التونسية بمبادئ قانونية تستمد من المنظومة القانونية الحديثة يتعين أخذ الاعتبارات الدينية في الحسبان في ما يتعلق بالكفالة وفقا للمبادئ الإسلامية التي تؤكد على توفير بيئة أسرية بديلة تحترم حقوق الطفل، وتمت مناقشة الفروق الجوهرية بين الكفالة وفقا للتشريع التونسي والتشريع الإسلامي حيث تم تسليط الضوء على جوانب حقوق الطفل في كل من النظامين بالإضافة إلى أهمية الموازنة بين حقوق الطفل في القانون المدني والاعتبارات الدينية.
وفي الجلسة الختامية، تم تلخيص التوصيات التي أجمعت على ضرورة تحديث التشريعات المتعلقة بالكفالة والتبني بما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الطفل، وشملت التوصيات ضرورة تعزيز التنسيق بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وتوسيع نطاق التعاون بين الجمعيات المعنية برعاية الأطفال المكفولين والسلطات القضائية، كما أكدت التوصيات على ضرورة إرساء آليات فعالة لمراقبة تنفيذ برامج الكفالة والتبني بما يضمن حصول الأطفال على رعاية كاملة ومتوازنة في جميع جوانب حياتهم.
هذا وتم التذكير في الختام بأن المصلحة الفضلى للطفل يجب أن تكون محور أي سياسة أو إجراء قانوني متعلق بالكفالة والتبني وأن التحديات التي قد تطرأ لا تقتصر فقط على النصوص القانونية، بل تتعلق أيضا بتوفير بيئة اجتماعية ونفسية تتيح للأطفال المكفولين النمو في ظروف صحية وآمنة، وفي هذا السياق كان الملتقى خطوة هامة نحو تسليط الضوء على الحاجة الماسة لإصلاحات قانونية واجتماعية تضمن توفير الحقوق الكاملة للأطفال المكفولين في تونس وخاصة الموافقة على كراس الشروط في الغرض وتفعيلها.