الصفحة 3 من 3
محاكم التفتيش
أخلت القاضية غادة عون سبيلهم، على أن يلتقوا راعي أبرشية جبيل للموارنة، المطران ميشال عون، الذي التقوه مساء اليوم نفسه. ما أثار استغراب حقوقيين ومتابعين للموضوع، إذ شككوا في قانونية الاستدعاء من أساسه، إضافة إلى أن إخلاء السبيل بعد التحقيق بدا مرتبطا بلقاء أعضاء “مشروع ليلى” مع المطران الذي لا صفة قضائية ولا قانونية له في هذا الملف، سوى كونه من المرجعيات الروحية المسيحية التي طالبت بإلغاء حفلة الفرقة، وساهمت بشكل فاعل في الحملة التحريضية على حرية التعبير.
اللافت في الأمر أكثر، الغياب التام لمكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية التابع للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وعدم التفاته إلى ذلك السيل من المنشورات التحريضية التي تهدد “بإراقة الدماء”، وهو الجهة التي طالما استدعت إلى التحقيق إعلاميين وناشطين ومغردين على مواقع التواصل بسبب مقال أو منشور أو تغريدة تنتقد أو تتهم بعض المسؤولين، بسبب سلوكهم السياسي أو حول قضايا الفساد وهدر المال العام. واضح أن أجهزة الدولة المسؤولة عن أمن مواطنيها وحماية حقوقهم وحرياتهم قد تخلّت عن دورها لمرجعيات “روحية” فوق القوانين المرعية، تقضي وتحكم وتعطي وتمنع، ما يسقط عن الدولة اللبنانية اعتبارها دولة مدنية بمؤسسات وأجهزة وقوانين تسري على الجميع ويحيلنا إلى عصور “محاكم التفتيش” المشؤومة.
وكانت “المفكرة القانونية”، وهي جمعية حقوقية لبنانية قد عبّرت عن دهشتها لمجريات قضية “مشروع ليلى” وتطوراته، رافضة بالمطلق الخطاب العنفي والتهديدي ضد أعضاء الفرقة واللجنة المنظمة للمهرجان، ومذكّرة بضرورة إعطاء مفهوم “تحقير الشعائر الدينية” تحديدا واضحا يسهم في رفع منسوب التسامح “كي لا يطال سيف اللاتسامح الأعمال الفنية والأدبية، من دون إيلاء أي اعتبار لحرية الإبداع”.
كما طالبت المفكّرة القانونية الدولة بتحمّل مسؤولياتها في “حماية التعددية الفكرية والحريات الشخصية كافة، من دون الانحياز أو التعصّب لهذا المعتقد أو ذاك، ما يقتضي أن يتجسد في عمل النيابات العامة التي سجّلت تحركات ضاغطة ضد من يتهم بتحقير الدين، مقابل التساهل والتسامح والامتناع عن اتخاذ أي موقف إزاء من يهدد باللجوء إلى العنف وتهديد السلم الأهلي برمّته”. كما أكدت المفكّرة القانونية في بيانها على حماية حريتي الإبداع والمعتقد ورفضت الانجرار إلى معارك وهمية، تحجب تردي الأوضاع على كافة الأصعدة من فساد سياسي ومالي وتدمير بيئي ونهب منظم لموارد البلاد.
وفي الثلاثين من يوليو الماضي تقدمت “المفكرة القانونية” إلى جانب عدد من الجمعيات المدنية والحقوقية الأخرى بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية تطالبها فيه مباشرة التحقيقات مع أشخاص وجهات سياسية حرّضت علنا على العنف ضد فرقة “مشروع ليلى”. فهل ننتظر؟ لننتظر.
خلاصة القول، إن قمع الحريات، مضافا إلى رفع مستوى الخطاب التحريضي الطائفي والمذهبي، إلى جانب الحملة العنصرية المسعورة ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، يراد منه دفع الساحة اللبنانية إلى مزيد من الانقسام والتوتر لتتوارى خلف المخاوف كل الأزمات المعيشية والصفقات والتسويات السياسية والتهريبات المالية التي هي في صلب طبيعة هذا النظام والسبب الحقيقي لمعاناة اللبنانيين وتهديد استمراريتهم وبقائهم في أرضهم.
عديد نصار
كاتب لبناني