يمكننا أن نضع تقييمات متعددة لفطرة الإنسان ونصفها بنعوت متناقضة ويكون في جعبة كل رأي ما يكفي من الأدلة والحجج ، لكن لا يمكن أن يجزم أي موقف بأنه حسم مسألة الطبيعة البشرية.
ولا يتوقف الجدل في هذه المسألة على مر الزمن، حيث ينحاز عدد من المفكرين والفلاسفة إلى موقف يؤكد طبيعة الإنسان الخيرة وفطرته السوية، فيما يجزم آخرون بأنها فطرة شريرة ومتوحشة، وظهرت ما بين الرأيين تقييمات حاولت التوفيق بينهما بحلول وسط.
إلا أن كل ذلك لم يحل هذه القضية الجدلية المحيرة، وتبقى فطرة الإنسان عصية متمردة لا يحيط بها تصنيف ولا يأسرها موقف، طبيعة متغيرة تحتفظ بغموضها مثل الكثير من الأسئلة الوجودية التي أعيت المفكرين ولم تنصع لجهودهم المثابرة ولعقولهم المتقدة.
ولعل "القبلة الأبدية" تلقي بصيص ضوء على هذه المسألة المعقدة المتعددة الجوانب والأبعاد، ففي عام 1972 عثر فريق من خبراء الآثار الأمريكيين في منطقة "تبة حسنلو" بمحافظة أذربيجان الغربية الواقعة أقصى شمال غرب إيران على هيكلين عظميين فريدين داخل قبر.
وعلى الرغم من أن اكتشاف مثل هذه القبور الموغلة في القدم مسألة اعتيادية لا تثير الدهشة ولا تدعو إلى الاستغراب، إلا أن فريق التنقيب بُهت وتجاذب أعضاؤه الانفعالات حين اكتملت الصورة أمامهم وأزيحت الأتربة عن الهيكلين العظميين!
كان الهيكلان البشريان في وضعية توحي بأنهما قبل أن يودعا الحياة تعانقا في قبلة أبدية، دلت الفحوصات العلمية أنها تواصلت منذ عام 800 قبل الميلاد.
انكب الخبراء على دراسة الهيكلين الفريدين والأطلال التاريخية المحيطة، وتبين أن القبر يحتوي على هيكلين عظميين لرجل وامرأة تعرضت منطقتهما لهجوم عنيف أصيب الرجل خلاله بجرح غائر في جمجمته، ويبدو أنهما قررا الاختباء في قبو، إلا أن القرية تعرضت إلى تخريب وحريق شديدين بحسب الخبراء، وبات القبو قبر هذين العاشقين الأبديين.
تخيلوا زوجين منذ أكثر من 2800 عام، يودعان الحياة في قبو مظلم وتنقطع أنفاسهما رويدا رويدا، لكنهما يجدان متسعا من الوقت ومن الإرادة كي يخلدا مشاعرهما في قبلة قُدر لها أن تظل ماثلة، وأن تصبح أحفورة أبدية لوداع مؤثر ولمشاعر إنسانية تثير الكثير من الشجن.
ونجد بالمقابل في حادثة معاصرة صورة أخرى تعكس طبيعة الإنسان بمعان مغايرة، حيث عثر رجال الإنقاذ تحت الأنقاض في أحد أحياء ولاية باجا كاليفورنيا شمال المكسيك إثر زلزال عنيف ضرب أركانها عام 2010 على جثتين لجلاد وضحية مكبلة بالحديد في قبو سري.
وتبين أن الجلاد والضحية لفظا أنفاسهما الأخيرة معا، بعد أن انهارت عليهما الحجارة، ووضعت خاتمة لعذابات الضحية ووأدت الجلاد معه.
صورة تبدو كما لو أنها رسالة إلى البشرية تدعوها في صرخة مفجعة إلى أن تتخلص من شرورها وأن تثبت أن طبيعتها خيرة أو بإمكانها على الأقل أن تكون كذلك.
والمحزن أن ما بين مشهدي القبلة الأبدية ونهاية الجلاد والضحية قاسم مشترك هو العنف والرعب، فلم يرتبط الزوجان المجهولان في قبلتهما الأبدية في وداع طوعي أو طبيعي، بل فرا من العنف وتوسدا قبرهما لكنهما عبّرا في لحظاتهما الأخيرة عن أنبل المشاعر الإنسانية، فيما كانت نهاية الجلاد والضحية أكثر مأساوية، وكان مشهدهما قاتما وصادما وخاليا من أي أفق.