اختر لغتك

مقياس 2025 فرصة لتشخيص واقع المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تونس 

مقياس 2025 فرصة لتشخيص واقع المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تونس 

في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها تونس، يعتبر قطاع المؤسسات الصغرى والمتوسطة العمود الفقري للنسيج الاقتصادي الوطني، إذ يشكل أكثر من 90% من إجمالي المؤسسات؛ ومع ذلك، لا تزال هذه الفئة تواجه تحديات جوهرية تستوجب تحليلا معمقا لإيجاد حلول مستدامة وفعالة؛ وفي هذا الإطار، انعقدت النسخة السابعة من "مقياس" الباروميتر الوطني لصحة المؤسسات الصغرى والمتوسطة، يوم الثلاثاء 18 فيفري 2025 بتنظيم من كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية (كونكت) وبالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD)، وقد قدم هذا الحدث بيانات دقيقة حول أداء المؤسسات الصغرى والمتوسطة مسلطا الضوء على التحديات التي تعترضها، لاسيما في مجالي التمويل والولوج إلى الأسواق وهي إشكاليات لا يمكن التغاضي عنها نظرًا لدورها المحوري في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة:

الاحتراق المهني في تونس: ظاهرة تهدد استقرار الأفراد والمؤسسات

وزارة التربية تمنع اصطحاب الهواتف الذكية داخل المؤسسات التربوية

العفو الاجتماعي يعزز سيولة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويخفف أعباء المؤسسات

عند التعمق في نتائج "مقياس 2023"، نجد أنها تعكس صورة دقيقة لكنها مقلقة حول وضعية المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تونس، فعلى الرغم من التحسن الطفيف مقارنة بسنة 2022، إلا أن 31.1% من المؤسسات شهدت تراجعا في رقم معاملاتها، وهو ما يؤكد استمرار الضغوط الاقتصادية التي تعرقل مسار النمو، والمثير للاهتمام أن 48.6% من المؤسسات لم تتقدم بأي طلب تمويل وهو مؤشر على وجود فجوة بين المؤسسات والقطاع المصرفي حيث يُعزى هذا العزوف إما إلى الخوف من الرفض أو إلى تعقيد الإجراءات البنكية وشروط الإقراض التي كثيرًا ما تُعتبر مُجحفة بالنسبة لهذه الفئة؛ وعلاوة على ذلك، فإن المؤسسات التي تمكنت بالفعل من تقديم طلبات تمويل اصطدمت بنسبة رفض مرتفعة بلغت 41.4% للقروض طويلة الأجل، مما يعكس إشكالية بنيوية تستوجب إعادة النظر في سياسات التمويل المعتمدة.

وبالنظر إلى قدرة هذه المؤسسات على الانفتاح على الأسواق الخارجية، يتضح جليًا أنها لا تزال تعاني من محدودية قدرتها التصديرية، إذ تعتمد 69% من المؤسسات على السوق المحلية، بينما لا تتجاوز نسبة المؤسسات الموجهة نحو التصدير 12%، وهي نسبة تتركز أساسا في المدن الكبرى والمناطق الساحلية، ويرجع هذا الوضع إلى جملة من العوامل، من بينها غياب استراتيجيات فعّالة لدعم المؤسسات الناشئة في المناطق الداخلية، وارتفاع تكاليف اللوجستيات، إضافة إلى العوائق البيروقراطية التي تعطل النفاذ إلى الأسواق الخارجية، ولعل ما يزيد الأمر تعقيدا هو افتقار المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى مقومات المنافسة الدولية، سواء من حيث جودة المنتجات أو القدرة على الاستجابة لمتطلبات الأسواق العالمية، مما يستدعي تدخلا عاجلا لوضع سياسات تحفيزية تسهم في تعزيز تنافسية هذه المؤسسات على المستويين الإقليمي والدولي.

أما على مستوى الحوكمة الداخلية لهذه المؤسسات، فإن التقرير يبرز استمرار ضعف تمثيلية المرأة في مواقع القيادة، حيث لا تتجاوز نسبة المؤسسات التي تديرها نساء 12.2%، وهو ما يعكس استمرار التحديات الثقافية والهيكلية التي تعيق وصول المرأة إلى مواقع القرار الاقتصادي؛ وفي هذا السياق، لابد من التأكيد على أن تعزيز دور المرأة في المجال الاقتصادي لم يعد مجرد خيار أو قضية مساواة، بل أصبح ضرورة استراتيجية تفرضها التحولات الاقتصادية والاجتماعية، فالاقتصادات الناجحة اليوم هي تلك التي تعتمد على تكافؤ الفرص وتعزيز المشاركة النسائية في القطاعات الإنتاجية والخدماتية، مما يفرض إعادة النظر في الأطر القانونية والمؤسسية لدعم ريادة الأعمال النسائية وتوفير آليات تمويل ميسرة تمكن المرأة من تحقيق استقلالها الاقتصادي والمساهمة الفعالة في الدورة الإنتاجية.

وبالنظر إلى التحديات التي أفرزها تقرير "مقياس 2023"، فإن إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والمالية المعتمدة تجاه المؤسسات الصغرى والمتوسطة لم تعد خيارا، بل أصبحت ضرورة ملحة؛ ومن هذا المنطلق، يمكن اقتراح ثلاثة محاور إصلاحية رئيسية: أولا، إعادة هيكلة النظام التمويلي، وذلك من خلال تطوير أدوات تمويل أكثر مرونة، مثل القروض المضمونة، والتشجيع على الابتكار في مجال التمويل عبر آليات التكنولوجيا المالية (Fintech)، التي تتيح بدائل حديثة وفعالة لتوسيع دائرة الاندماج المالي؛ وثانيا، تعزيز تنافسية المؤسسات داخل الأسواق العالمية، وهو ما يستوجب تبسيط الإجراءات البيروقراطية، وتحفيز الرقمنة، ودعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن خلق بيئة أعمال ملائمة للنمو والتوسع؛ وأخيرا، تفعيل برامج التمكين الاقتصادي للمرأة، من خلال تقديم حوافز مالية وبرامج تدريبية متخصصة تعزز حضور المرأة في قيادة المؤسسات الاقتصادية، وتتيح لها فرصًا متكافئة في بيئة الأعمال.

في ضوء ما سبق، يمكن اعتبار "مقياس" أداة أساسية لتشخيص واقع المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تونس، ورسم سياسات تستند إلى معطيات دقيقة بهدف تعزيز صمود هذا القطاع أمام الأزمات الاقتصادية المتكررة، فمستقبل الاقتصاد التونسي يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى قدرة هذه المؤسسات على تجاوز تحديات التمويل والتصدير والإدارة، مما يستدعي مقاربة تنموية شاملة توازن بين دعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة وتطوير بيئة أعمال مواتية للنمو والاستدامة؛ ومن هذا المنطلق، فإن التفاعل الجاد مع نتائج هذا التقرير واتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة لا يمثل مجرد استجابة ظرفية، بل هو خيار استراتيجي يحدد ملامح مستقبل الاقتصاد الوطني ومدى قدرته على تحقيق التنمية المستدامة.

Please publish modules in offcanvas position.