الصفحة 3 من 3
أزمة متفاقمة
غير أن الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة بيّنت أن عدد السكان والتركيبة الديموغرافية للمجتمعات تمثل عوامل رئيسية لتغير المناخ، وسببا مباشرا في مخاطر التدهور البيئي، فلكل إنسان على سبيل المثال، مقدارا خاصا من الكربون يستهلكه سواء أثناء رحلاته بالقطار أو الطائرة، أو حتى عندما يشغل جهاز التلفزيون أو هاتفه الذكي، ويعرف هذا بالبصمة الكربونية التي تحدد إجمالي الغازات الدفيئة الناتجة عن تأثير الأنشطة البشرية، وما يستهلكه الناس من أجهزة إلكترونية ومنزلية وملابس وغيرها من المواد والنشاطات اليومية الأخرى المسببة للتلوث البيئي.
ويمثل إنتاج الطعام سبب ربع انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري ويساهم بشكل كبير في ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، بحسب ما خلصت إليه دراسة أجريت في جامعة أكسفورد البريطانية.
ودلت نتائج الدراسة أن اللحوم وغيرها من المنتجات الحيوانية مسؤولة عن إنتاج أكثر من نصف الانبعاثات الغازية المتأتية عن الأطعمة التي يتناولها البشر، بالرغم من أنها لا توفر لمتناوليها أكثر من خمس (20 بالمئة) عدد السعرات الحرارية التي يتناولونها.
وتوصلت الدراسة أيضا إلى أن لحوم البقر والغنم هي الأكثر إضرارا بالبيئة من كل الأطعمة التي جرى تحليلها.
ومن النتائج المثيرة للاهتمام، ما كشفت عنه دراسة أميركية نشرتها دورية “رسائل البحوث البيئية” بعد تتبعها انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن السكان في 13.000 مدينة، فقد بينت أن سكان 100 مدينة فقط يساهمون بنسبة 20 بالمئة من البصمة الكربونية للبشرية ككل. وتعادل هذه النسبة المقدار الذي تسهم به الانبعاثات الصناعية على مستوى العالم، وهو الأمر الذي يؤكد أن البشر يسهمون بدرجة كبيرة في ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون عن مستوياتها الطبيعية.
وتبدو البصمة الكربونية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء ضئيلة مقارنة بما يتسبب فيه سكان المدن الكبرى بالبلدان الغنية، فعلى سبيل المثال يتسبب سكان مدينة سول، عاصمة كوريا الجنوبية، في نحو 45 بالمئة من انبعاثات الكربون الكلية رغم النمو السكاني السلبي لهذا البلد الآسيوي، أما في المملكة المتحدة فتسهم مدن لندن ومانشستر وبيرمنغهام بما يزيد على 20 بالمئة من الانبعاثات الكلية على مستوى البلاد، فيما ينتج عن سكان شيكاغو ونيويورك ولوس أنجلس في الولايات المتحدة الأميركية ما مجموعه 10 بالمئة.
ورغم أن انبعاثات الكربون تزداد مع تزايد أعداد السكان بالمدن الكبرى وارتفاع مستوى الرفاهة، فإن النمو السكاني السريع الذي تشهده منطقة أفريقيا جنوب الصحراء له أيضا أثر واضح جدا على البيئة، فالأنظمة البيئية مثل الغابات الاستوائية المطيرة، تتدهور بوتيرة سريعة، كما أن الممارسات الزراعية الجائرة تنهك التربة وتفقدها خصوبتها. ومثل هذه الآثار السلبية قابلة للتفاقم وتهدد بفقدان الحياة النباتية والتنوع الحيوي، وقد تقود إلى مجاعات وحروب طاحنة، إذا ما استمرت الزيادة السكانية في أفريقيا على النحو المتوقع.
ويرى الخبراء أنه في إمكان الدول الأفريقية تغيير مساراتها الديموغرافية والتنموية إلى الأفضل، إذ ما عملت على تطبيق ثلاث استراتيجيات رئيسية تتعلق، بالعمل على توفير خدمات تنظيم الأسرة إلى جميع السكان، نظرا لما أثبتته من فعالية في خفض عدد المواليد في صفوف الفئات السكانية الفقيرة وغير المتعلمة والريفية، فزيادة بقدر 15 نقطة مئوية في معدل انتشار وسائل منع الحمل، كفيلة بإحداث انخفاض بمعدل مولود لإجمالي عدد المواليد للمرأة العادية.
وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يمكن أن تؤدي زيادة بنسبة 45 نقطة مئوية في استخدام وسائل منع الحمل إلى خفض معدل الخصوبة الكلي من 4.7 إلى 1.7 طفل، وهذا من شأنه خفض معدل النمو السكاني للمنطقة إلى ما دون مستويات الإحلال.
أما الإجراء الثاني فيكمن في بذل المزيد من الجهود لتأخير سن الزواج والحمل للفتيات، لأن الفتاة التي تضع مولودها الأول وهي في سن الـ15، سيكون عدد أولادها أكبر بكثير من المرأة التي تضع مولودها الأول وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وكلما تأخر سن الزواج، زادت فرص الفتيات في التعليم والتنمية وبالتالي سينعكس ذلك إيجابيا على أسرهن ومجتمعاتهن.
أما الإجراء الثالث، فيكمن في توفير فرص التعليم للفتيات إلى ما بعد المرحلة الابتدائية، فقد أثبتت التجارب أن المرأة التي تحصل على فرص تعليم جيدة تكون أكثر وعيا بأهمية وسائل تنظيم الأسرة وسيكون لها في العادة عدد أقل من الأطفال، علاوة على أن ذلك سيمنحها المزيد من الفرص والامتيازات لتحقيق تطلعاتها المهنية وضمان حصولها على وظيفة لائقة في حياتها.
وكشفت إحصائيات دولية أن التحسن في التحصيل العلمي لدى الفتيات في الـ50 عاما الماضية كان عاملا رئيسيا في دفع عجلة النمو الاقتصادي في البلدان المتقدمة، وأتاح للمرأة المزيد من الفرص، بالاعتماد على ما اكتسبته من مؤهلات علمية،
ومما لا شك فيه أن تنفيذ هذه المبادرات السياسية المهمة سيقود حتما إلى تخفيض معدل النمو السكاني بطرق أكثر كفاءة وبعيدة كل البعد عن الإجراءات الحكومية القسرية التي ترغم الناس على أشياء لا يرغبون فيها.
محمد اليعقوبي
مهندس اتصالات من تونس