في شوارع تونس، حيث تتقاطع الحياة اليومية مع ضجيج المدن، يبرز مشهد التاكسي كعنصر أساسي في حياة المواطن، وسيلة نقل كان يفترض أن تكون حلقة وصل بين الأفراد وأهدافهم، لكنها تحولت في كثير من الأحيان إلى رمز للفوضى، الاستغلال؛ هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة نقل، بل هي انعكاس عميق لخلل في القيم المجتمعية، حيث يتداخل الجشع مع غياب الرقابة، ويتحول الاحتياج إلى فرصة للاستغلال.
مقالات ذات صلة:
اعتداء عنيف في قلب المرسى: سائق تاكسي يهاجم تلميذتين قاصرتين! ماذا حدث خلف الكواليس؟
سواق التاكسي الفردي بالقصرين ينفذون وقفة احتجاجية اعتراضًا على "أمر 581"
سائقي التاكسي الفردي يطالبون بالزيادة في التعريفة لتغطية المصاريف
لطالما كان التاكسي جزءا من الحياة اليومية للتونسيين، وسيلة تنقل تعبر عن بساطة العلاقة بين المواطن والخدمة العامة، ولكن في السنوات الأخيرة، تغيرت هذه العلاقة بشكل جذري، اصبح التاكسي في كثير من الأحيان أداة استغلال بدلا من أن يكون وسيلة تخدم المواطن، فعبارة مثل"لست في طريقي"، التي يرددها بعض السائقين، تعكس رفضا واضحا لتقديم الخدمة، وكأنها إعلان ضمني بأن الربح الشخصي هو المعيار الوحيد للعمل.
هذا السلوك لا يعبر فقط عن أزمة مهنية، بل يكشف عن أزمة أعمق تتعلق بالقيم الاخلاقية، فعندما يضع السائق مصلحته فوق مصلحة المواطن، فإنه يساهم في خلق بيئة من عدم الثقة، حيث يصبح التاكسي رمزا للأنانية بدلا من أن يكون وسيلة للتواصل والخدمة.
ففي أوقات الذروة أو خلال المناسبات، يجد المواطن نفسه أمام واقع صادم، تسعيرات خيالية تصل أحيانا إلى 100 دينار، وهو مبلغ يتجاوز بكثير التسعيرة الرسمية، هذه الظاهرة ليست مجرد خرق للقانون، بل هي تعبير عن عقلية ترى في احتياج الآخر فرصة للربح السريع.
التسعيرة العشوائية ليست مجرد رقم، بل هي انعكاس لفقدان الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر، فعندما يصبح المال هو الهدف الوحيد، تتلاشى القيم التي تربط بين الأفراد، ويصبح المجتمع ساحة صراع بين من يملك القوة ومن يحتاج إلى الخدمة.
إلى جانب التسعيرات المبالغ فيها، يعاني المواطن التونسي من سلوكيات غير مهنية من قبل بعض سائقي التاكسي، من عدم احترام الزبون إلى استخدام ألفاظ غير لائقة، مما يبدو أن مفهوم "الخدمة" قد تلاشى لدى البعض، فهذه التصرفات لا تسيء فقط إلى صورة المهنة، بل تخلق حالة من التوتر وعدم الثقة بين المواطن وسائق التاكسي.
السؤال هنا ليس فقط عن غياب المهنية، بل عن غياب القيم التي تجعل من تقديم الخدمة واجبا أخلاقيا قبل أن يكون عملا تجاريا، فعندما يفقد السائق احترامه للزبون، فإنه يفقد احترامه لنفسه أولا، ويضعف الرابط الإنساني الذي يجب أن يكون أساس أي علاقة مهنية.
وفي مواجهة هذه الانتهاكات، تبدو الدولة وكأنها غائبة أو متراخية، فغياب الرقابة الصارمة وترك المجال للفوضى جعل من التاكسي وسيلة استغلال بدلا من أن يكون خدمة عامة؛ ولكن هل يمكن تحميل الدولة وحدها مسؤولية هذه الأزمة؟ أم أن المشكلة أعمق من مجرد قوانين وتنظيمات؟
الدولة، بوصفها الجهة المسؤولة عن تنظيم الحياة العامة، مطالبة بوضع حد لهذه الفوضى، فمن الضروري وضع قوانين صارمة تنظم عمل التاكسي وتضمن احترام حقوق المواطن، ولكن هذه القوانين لن تكون فعالة إذا لم ترفق برقابة ميدانية صارمة وآليات تنفيذ تضمن الالتزام بها، ولذلك لابد من وضع جملة من الخطوات المطلوبة مثل تحديد تسعيرة رسمية واضحة وملزمة للجميع، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين؛ والتاكد من الرقابة الميدانية الفعالة من خلال تعزيز دور الجهات الرقابية لضمان التزام السائقين بالقوانين، والحرص على تدريب السائقين بفرض دورات تدريبية إلزامية تركز على أخلاقيات المهنة واحترام الزبون؛ كما لابد من إدخال التكنولوجيا كنشاء تطبيقة تاكسي تتبع وزارة النقل لتوفير خدمات نقل شفافة واحترافية.
اذ أن في ظل التطور التكنولوجي، يمكن أن تكون التطبيقات الذكية وسيلة فعالة لحل أزمة التاكسي في تونس، هذه التطبيقات لا توفر فقط وسيلة حجز سهلة، بل تضمن أيضا تسعيرة شفافة ونظام تقييم للسائقين، ومن خلال هذه الأدوات، يمكن للمواطن أن يحصل على خدمة محترمة دون الحاجة إلى مواجهة الفوضى والاستغلال.
ولكن إدخال التكنولوجيا ليس حلا سحريا، اذ يجب أن يكون جزءا من استراتيجية شاملة تشمل تنظيم القطاع، تعزيز الرقابة، وتغيير العقليات التي ترى في المواطن مجرد فرصة للربح.
إلى جانب دور الدولة، يتحمل المواطن أيضا مسؤولية في مواجهة هذه الظاهرة، فمن الضروري أن يكون المواطن واعيا بحقوقه وألا يتردد في التبليغ عن أي تجاوزات التى تصدر من سائقي التاكسي العادي أو من يشتغلون عبر التطبيقات، مما يضع ضغطا على سائقي التاكسي لتحسين سلوكهم.
ولكن المسؤولية لا تقتصر على التبليغ أو اختيار البدائل، فالمواطن بوصفه جزءا من المجتمع، يجب أن يكون شريكا في بناء ثقافة تحترم القيم وتضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية.
في النهاية، يمكن القول إن أزمة التاكسي في تونس ليست مجرد مشكلة نقل، بل هي مرآة تعكس واقعا اجتماعيا أعمق، فالتاكسي كوسيلة نقل يومية، يعكس العلاقة بين المواطن والخدمة العامة، وبين الفرد والمجتمع، وعندما تتحول هذه العلاقة إلى صراع بين الاستغلال والاحتياج، فإن ذلك يشير إلى خلل يتطلب إصلاحا جذريا.
إصلاح قطاع التاكسي ليس فقط مسألة قوانين وتنظيمات، بل هو دعوة لإعادة النظر في القيم التي تحكم علاقتنا ببعضنا البعض، بين السائق الذي يرفض نقل الزبون لأنه "ليس في طريقه"، والمواطن الذي يقبل بدفع تسعيرة خيالية لأنه لا يملك خيارا آخر، تكمن أزمة أعمق تتعلق بفقدان الإحساس بالمسؤولية المشتركة، هذه الازمة ليست مجرد مشكلة نقل، بل هي اختبار للقيم التي تحكم علاقتنا ببعضنا البعض وبينما يظل الحل ممكنا، يبقى السؤال: هل نحن مستعدون لإعادة بناء هذه العلاقة على أسس من الاحترام والمسؤولية؟