في عالم يموج بتحديات متشابكة، تتجاوز المسؤولية المجتمعية للمؤسسات كونها مجرد التزام قانوني أو عرف متفق عليه، لتصبح سؤالا محوريا يتعلق بدور المؤسسات في إعادة تشكيل واقع تتباين فيه المصالح وتتداخل الأولويات، وفي السياق التونسي حيث يختلط الأمل بواقع معقد يتسم بتفاوتات اجتماعية واقتصادية عميقة، تبرز المسؤولية المجتمعية كمساحة يتقاطع فيها البعد الأخلاقي مع مقتضيات المصلحة العامة،ولكن في ظل غياب الوضوح بين التصور والتنفيذ تظل هذه المسؤولية عالقة في منطقة رمادية يصعب تحديد معالمها بوضوح.
مقالات ذات صلة:
الدكتورة امال المهيري ضيفة منوعة تلفزية كبرى للحديث عن تجربتها في الطب والمجتمع المدني
من أجل مجتمع متماسك: وزارة الأسرة تطلق برنامجًا وطنيًا لإسعاد الأطفال خلال عطلة الشتاء
تحديات وتداعيات الاقتصاد الموازي في تونس على المجتمع والدولة
فعندما تتحدث النصوص عن تخصيص الموارد لمشاريع اجتماعية وتنموية، فإنها تنطلق من مبدأ نبيل يهدف إلى تحقيق التوازن بين أرباح المؤسسات وحاجات المجتمعات، ولكن هذا المبدأ في غياب آليات التنفيذ الرشيد، غالبا ما يتحول إلى مجرد أداة تستخدم لتجميل صورة المؤسسة، دون أن تحدث أثرا فعليا في الواقع، ولعل السؤال الأكثر إلحاحا هنا: كيف نضمن أن تترجم هذه الالتزامات إلى مشاريع حقيقية تخدم المجتمع بدلا من أن تكون مجرد ديكور رمزي يغطي على فجوات أعمق؟
غالبا ما توظف المسؤولية المجتمعية كوسيلة لحماية مصالح المؤسسات بدلا من خدمة الغايات العامة، إذ تسعى بعض المؤسسات إلى استخدام هذه المسؤولية كدرع يحميها من الانتقادات، أو كوسيلة لتعزيز نفوذها في مناطق معينة، وهكذا تصبح العلاقة بين المؤسسة والمجتمع علاقة ذات طابع انتهازي، تفتقر إلى روح التضامن الحقيقية، وفي ظل غياب الرقابة المستقلة، تتضاءل فرص تحقيق أثر حقيقي، مما يجعل المسؤولية المجتمعية فاقدة لمعناها الأعمق.
لذا فإن وضع إطار قانوني ينظم المسؤولية المجتمعية يعد خطوة مهمة على طريق التغيير، لكنه في الوقت نفسه قد يتحول إلى قيد يحد من إبداع المؤسسات في تصميم مبادرات تتماشى مع احتياجات المجتمع، فعندما تصبح المسؤولية مجرد بند قانوني يجب الالتزام به، تفقد المؤسسات حريتها في اختيار المجالات التي تستطيع التأثير فيها بشكل أفضل، مما يؤدي إلى هدر الموارد في مشاريع قد تكون غير ضرورية أو غير ذات صلة.
وفي مجتمع يعاني من ضعف في آليات الشفافية والمساءلة، تصبح المسؤولية المجتمعية عرضة للتلاعب والاستغلال، فكثيرا ما تخصص الموارد لمشاريع لا تخضع للتقييم الموضوعي، بل تنفذ بناء على اعتبارات سياسية أو مصالح خاصة، وبدلا من أن تكون وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، تتحول إلى أداة لتعزيز الانقسامات وإعادة إنتاج التفاوتات القائمة.
اذ ان إن المشاريع التي تنفذ تحت مظلة المسؤولية المجتمعية غالبا ايضا ما تفتقر إلى رؤية طويلة المدى، فهي تركز على تلبية احتياجات آنية بدلا من معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات، فعلى سبيل المثال تمويل نشاط ثقافي أو تجهيز مؤسسة تعليمية، رغم أهميته، لا يعالج مشكلات مثل البطالة أو نقص الكفاءات، كماا وأن غياب منطق الاستدامة في هذه المبادرات يجعل أثرها محدودا وزائلا، مما يضيع فرصة تحقيق تغيير حقيقي ومستدام.
ولتجاوز هذه الإشكاليات، ينبغي إعادة صياغة مفهوم المسؤولية المجتمعية كفعل شراكة حقيقية بين المؤسسات والمجتمع، وهذا يتطلب بناء جسور تواصل بين الأطراف المختلفة، بحيث تصبح المسؤولية مبادرة جماعية تهدف إلى تحقيق مصالح مشتركة، ومن هنا يجب إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الأولويات، وضمان أن تكون هذه الأولويات مبنية على احتياجات فعلية وليست مجرد تصورات مؤسساتية مغلقة.
هذا ولا يمكن للمؤسسات أن تتحمل وحدها عبء المسؤولية المجتمعية، فالدولة بما تمتلكه من أدوات تشريعية وتنظيمية، لها دور محوري في توفير بيئة تضمن الشفافية والمساءلة، كذلك فإن المجتمع المدني يمكن أن يلعب دور الوسيط الذي يضمن توجيه الموارد إلى حيث الحاجة الفعلية، اذ ان تحقيق هذا التكامل بين المؤسسات والدولة والمجتمع المدني هو الشرط الأساسي لتحويل المسؤولية المجتمعية من عبء إلى فرصة.
كذا لا تتحق المسؤولية الحقيقية إلا في مناخ من الثقة المتبادلة، والمؤسسات التي تدرك أن نجاحها مرتبط برفاه مجتمعها ستدرك أيضا أن الاستثمار في التنمية الاجتماعية والاقتصادية ليس خسارة، بل هو ضمان لاستمراريتها على المدى الطويلؤ ومن هنا فان التحدي الأكبر يكمن في بناء نموذج جديد للمسؤولية المجتمعية يقوم على الشفافية، والمشاركة، والاستدامة.
في نهاية المطاف، تظل المسؤولية المجتمعية قضية مفتوحة على احتمالات متعددة، تتراوح بين أن تكون أداة لتغيير الواقع أو وسيلة لتكريس الفجوات القائمة، وما يحدد مآلها هو الإرادة الحقيقية للتغيير، التي تبدأ بإعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات ومجتمعاتها على أساس من التضامن والعدالة والمصير المشترك، ففقط حينها يمكننا الحديث عن مسؤولية مجتمعية تحمل في طياتها وعدا بمستقبل أكثر إنصافا واستدامة.