إن الحديث عن المجتمع المدني في سياقه الفعلي يتجاوز كونه مجرد مفهوم تنظيمي إلى كونه انعكاسا عميقا لوجدان الأمة وروحها الأخلاقية، هذا المجتمع الذي يفترض أن يكون ضمير الوطن وسنده، يتعرضا للاختراق من قبل الفاسدين والمندسين الذين يسعون إلى تحويله إلى أداة لبيع المبادئ الوطنية أو لتمرير مصالح شخصية ضيقة، هنا يطرح السؤال كيف يمكننا تطهير هذه المنظمات والجمعيات، وإعادتها إلى جوهرها النبيل؟
مقالات ذات صلة:
تصاعد الغضب في تونس: المجتمع المدني يحتج ضد اغتيالات الاحتلال الإسرائيلي ويدعو لمواصلة المقاومة
تونس تحتضن لقاء تضامنيا مع الشعب الفلسطيني: رسائل قوية من قادة المقاومة والمجتمع المدني
تطهير الجمعيات والمنظمات ليس مجرد خطوة إدارية أو عقابية، بل هو فعل مقاومة حضارية يهدف إلى إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة المدنية، وفي واقع الأمر المجتمع المدني ليس كيانا معزولا عن النسيج الاجتماعي؛ بل هو مرآة تعكس حالة المجتمع ذاته، وإذا كان هذا المجتمع مشوبا بعناصر الفساد والانتهازية، فإن النتيجة الحتمية هي ضعف دوره في حماية الحقوق، والتراجع عن مسؤولياته في تعزيز العدالة والتنمية.
لكن عملية التطهير ليست سهلة؛ فهي تتطلب أدوات متكاملة تجمع بين الرؤية الأخلاقية والإجراءات القانونية، وبين الوعي الجماعي والعمل الفردي، فكل منظمة أو جمعية تعمل بشفافية ونزاهة تتحول إلى لبنة صلبة في صرح المجتمع المدني، فيما تصبح الجمعيات التي تحتوي على المندسين والسماسرة ثغرة تهدد هذا البناء، فهي ليست فقط أداة استغلال، بل تصبح معولا يضرب أسس الثقة العامة.
ومن منظوراخر أعمق، يمكن القول إن تطهير المجتمع المدني هو تعبير عن نزعة إنسانية جوهرية نحو الكمال والنقاء، فالإنسان بطبيعته يسعى لتجاوز القبح والفساد، وعندما يمتد هذا السعي إلى المؤسسات التي تمثله، فإنه يخلق حالة من التوازن بين الأخلاق والسياسة، وبين الواجبات والحقوق، وهنا تظهر القيمة الحقيقية للمجتمع المدني كونه جسرا بين الفرد والدولة، وأداة لتحقيق التوازن بين الحريات الفردية والمصلحة العامة.
لذا عندما يطهر المجتمع المدني من شوائب الفساد، يصبح حينها كيانا قادرا على مواجهة التحديات الكبرى، ويمكنه حينئذ، أن يقود حوارات حقيقية حول التنمية، وأن يدافع عن المهمشين دون أن يتورط في الحسابات الضيقة، اذ إنه يتحول إلى صوت قوي ومستقل، لا يخشى السلطة بل يتماشى مع قرارتها داعما لها وجنبا الى جنب معها، ولا يخضع للإملاءات بل ينطق باسم المصلحة الوطنية العامة للبلاد التونسية ويعمل من أجلها.
وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أن عملية التطهير ليست مجرد فعل عابر أو استجابة ظرفية، بل هي جزء من عملية بناء طويلة الأمد، اذ إنها صيرورة تعكس التزاما مشتركا بين جميع أفراد المجتمع، الذين يدركون أن النهوض لا يتم إلا بتنظيف البيت الداخلي أولا، وعندما نصل إلى تلك المرحلة، يمكننا أن نقول بكل ثقة لدينا مجتمع مدني حقيقي، نظيف من الفساد، قادر على صنع مستقبل أفضل، وواع بمسؤولياته التاريخية والوطنية.
هكذا فقط يصبح المجتمع المدني ليس فقط وسيلة للتغيير، بل نموذجا للفضيلة، وقوة قادرة على إحداث تحول جذري في بنية المجتمعات، من خلال تحريرها من قيود الاستغلال واستعادتها لروحها الإنسانية النبيلة.