في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وتتكاثر فيه الضغوط البيئية والثقافية، يجد الإنسان نفسه في حاجة دائمة إلى آليات جديدة قادرة على التكيف مع هذه المتغيرات؛ في هذا السياق، تتجلى أهمية الجمعيات في ميدان العمل المجتمعي والتنموي، باعتبارها كائنات اجتماعية تنبثق من حاجات المجتمع نفسه، تسعى إلى تحقيق أهداف سامية تتعلق بالعدالة الاجتماعية والمساواة.
مقالات ذات صلة:
الجمعيات السينمائية ترفض مقترح القانون المعروض على مجلس الشعب
رئيس الجمهورية يدعو لمراقبة تمويل الجمعيات الخارجية
وفي المقابل، لم يعد بإمكان المؤسسات الاقتصادية تجاهل دورها في هذا السياق؛ فالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات أصبحت ضرورة ملحة، ليس فقط لتأكيد جدارتها في السوق، ولكن لضمان مساهمتها الفاعلة في بناء مجتمع أكثر توازنا واستدامة، هذه المسؤولية تشكل بعدا أكثر تعقيدا من مجرد "الربح"، بل تتجاوز ذلك إلى فهم أعمق وأكثر نضجا لعلاقتها بالبيئة والمجتمع.
الندوة التي نظمها مركز "إفادة للجمعيات" حول الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، والتي تناولت في عمقها طبيعة العلاقة بين هذين الجانبين، شكلت فرصة هامة لاستخلاص المرامي الجوهرية لتلك العلاقة المتشابكة، ففي هذه الندوة، تم تسليط الضوء على الأبعاد المتعددة لهذا الموضوع، والتي تشمل ليس فقط الأبعاد العملية والتطبيقية، ولكن أيضا الأبعاد النظرية العميقة التي تحكم التفاعل بين الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية، ولكن كيف نفهم هذا التفاعل؟ وما هي الأسس النظرية التي تبرز هذه العلاقة؟ وما التحديات التي قد تصاحبها، وكيف يمكن تجاوزها؟
الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية هي مفاهيم وتقاطعات
الجمعيات، بما هي كائنات اجتماعية غير ربحية، تشكل نواة التغيير المجتمعي، هي تلك الكيانات التي تنشأ استجابة لضرورات اجتماعية وبيئية، لا من أجل الربح المادي بل من أجل تلبية حاجات مجتمعية معينة، سواء كانت هذه الحاجات تتعلق بالصحة، التعليم، التنمية المستدامة، أو محاربة الفقر.
اذ ينطلق تأسيس هذه الجمعيات من تصور اجتماعي مبدئي يعكس الالتزام بالتغيير الاجتماعي باعتباره مسعى لا يتوقف عند حدود القوانين الاقتصادية أو السياسية، بل يمتد ليشمل فهما أعمق للعدالة الاجتماعية، فالجمعيات تعمل على إشراك الأفراد في حل مشاكل المجتمع، وتلتزم بأن تكون قوة محركة نحو التغيير، بيد أن هذا التغيير ليس بمقدوره أن يكون مستداما دون إسهامات ملموسة من مؤسسات أخرى.
أما المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، فهي ذلك المبدأ الذي يقتضي من الشركات أن تلتزم ليس فقط بتحقيق الأرباح المادية، ولكن أيضا بتقديم مساهمات بناءة في تحسين المجتمع وحماية البيئة، فالمسؤولية الاجتماعية من منظور موسع، هي بمثابة فكر يدعو إلى أن توازن المؤسسات بين تطلعاتها الاقتصادية وبين التزاماتها الأخلاقية تجاه أفراد المجتمع، هي رؤية تكاملية تقر بأن الربحية وحدها ليست غاية وجود الشركات، بل هي وسيلة لخلق تأثير اجتماعي إيجابي، ومن هنا تلتقي الجمعيات مع المؤسسات في نقطة تقاطع فكرية وفلسفية، حيث يشتركان في هدف واحد هو تحقيق "الخير العام".
ففي ندوة مركز "إفادة للجمعيات"، تم تناول الأبعاد الإيجابية لهذه الشراكة من منظور عميق، يتجاوز المزايا السطحية، ولعل أولى هذه الإيجابيات تتعلق بالتنمية المستدامة، فالشراكة بين الجمعيات والمؤسسات قادرة على خلق مشاريع تنموية تسهم في تحسين ظروف المجتمع على مختلف الأصعدة، والجمعيات التي تتمتع بالقدرة على الوصول إلى الفئات المستهدفة والمناطق الأكثر حاجة، تعد الشريك الأمثل للمؤسسات التي ترغب في تحقيق مشاريع ذات تأثير إيجابي طويل الأمد، هنا لا تقتصر الفائدة على الجمعية فقط، بل تترجم إلى أثر ملموس في المجتمع من خلال تمويل المؤسسات للمشاريع البيئية أو الاجتماعية.
ومن جانب آخر، فإن تحسين صورة المؤسسات يأتي كنتيجة طبيعية لهذه الشراكة، فالمؤسسات التي تدعم الجمعيات وتساهم في تحسين حياة الأفراد تصنع لنفسها صورة إيجابية لدى الجمهور، مما يعزز من سمعتها ويسهم في تحسين مستوى ثقة المستهلكين، وهذا النوع من الشراكة يخلق أيضا علاقة أعمق بين الشركات والمجتمع، حيث يتحول التفاعل من مجرد علاقة اقتصادية إلى علاقة إنسانية ذات قيمة اجتماعية.
كما أن إشراك العاملين في المسؤولية الاجتماعية يساهم في خلق بيئة عمل صحية وتشاركية، بحيث يصبح الموظف جزءا من تلك الديناميكية المجتمعية، مما يعزز من شعوره بالانتماء إلى الشركة ويُحفزه على المشاركة الفعالة في الأنشطة الاجتماعية.
لكن، على الرغم من هذه الفوائد المتعددة، تبقى هناك تحديات ملحة تنبع من طبيعة العلاقة بين الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات،ومن أبرز هذه التحديات التسييس أو "تسليع" المبادرات المجتمعية، ففي بعض الأحيان تستخدم بعض المؤسسات المسؤولية الاجتماعية كأداة لتجميل صورتها العامة، بعيدا عن القيم الإنسانية الحقيقية، هذا يمكن أن يؤدي إلى تحول النشاطات الاجتماعية إلى مجرد أدوات دعائية، تستهدف تحسين صورة الشركات بدلا من تحقيق الفوائد المجتمعية الحقيقية.
كما أن التمويل غير المستدام يمثل تحديا آخر، حيث تعتمد العديد من الجمعيات بشكل كبير على الدعم المقدم من المؤسسات، مما يعرضها لخطر توقف مشاريعها في حال تغيرت سياسات هذه المؤسسات أو في حال حدوث أزمات مالية، هذه التبعية قد تقلل من استقلالية الجمعيات وقدرتها على مواصلة العمل دون تدخل خارجي.
إلى جانب ذلك، هناك أيضا مسألة عدم التوافق في الأهداف بين الجمعيات والمؤسسات، فكل طرف قد يحمل أهدافا قد لا تتناغم بالضرورة مع الأخرى، فالجمعيات قد تسعى لتحقيق أهداف اجتماعية تتطلب وقتا طويلا وموارد مستدامة، بينما المؤسسات قد تبحث عن مشاريع تدر عليها أرباحا سريعة أو مشاريع تظهر لها مردودا إعلاميا فوريا.
ولضمان تعزيز التعاون بين الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، لابد من وضع إطار عمل منظم يرتكز على الشفافية والمساءلة، اذ يجب تحديد أهداف واضحة تتفق عليها جميع الأطراف، مع ضمان أن تكون هذه الأهداف في مصلحة المجتمع ولا تقتصر على مصالح الشركات التجارية، كما أن التنسيق بين مختلف الفاعلين في المجتمع المدني يجب أن يكون مستمرا، لضمان توجيه الموارد بشكل صحيح لتحقيق التنمية المستدامة.
من جهة أخرى، ينبغي على الجمعيات أن تعمل على تنويع مصادر التمويل لضمان استقلاليتها وقدرتها على مواجهة أي تحديات مستقبلية، ولا يجب أن تظل مرهونة بمؤسسة واحدة، بل يجب عليها استكشاف مصادر دعم أخرى سواء من أفراد المجتمع أو من حكومات أو من خلال تفعيل الشراكات الدولية.
وأخيرا، فإن تعزيز الشفافية في العمليات المالية والإدارية يمثل خطوة أساسية نحو بناء الثقة بين جميع الأطراف المعنية، اذ يجب على الجمعيات والمؤسسات العمل معا على مراقبة وتقييم الأثر الاجتماعي للمشاريع، بحيث لا تكون الجهود مجرد محاولات لتجميل الصورة بل تكون نابعة من التزام حقيقي بتنمية المجتمع.
في الختام، إن العلاقة بين الجمعيات والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات تشكل ساحة خصبة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، تلك العلاقة التي تقوم على أساس من التعاون والتكامل، يمكن أن تسهم في بناء مجتمع أكثر استدامة، إذا تم الالتزام بالمبادئ الأساسية من الشفافية، التوافق على الأهداف، والحرص على أن تكون المشاريع المجتمعية ذات أثر طويل المدى، والفهم العميق لهذا التعاون، كما تم التأكيد عليه في ندوة مركز "إفادة للجمعيات"، يتطلب التفكير في أبعد من الربحية وأبعد من اللحظة الراهنة، والانتقال إلى الفكرة الأسمى للمسؤولية الاجتماعية كدعامة أساسية لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.