يعتقد باحثون في مجالات الفكر والثقافة والإبداع أنّ خوْصصة القطاع الثقافي مؤشر لتحضر المجتمعات وارتقائها، لا سيما أنّ ولوج مرحلة التعويل على المجالات الثقافية للكسب المادي يحيلنا إلى استنتاجين هامين هما: الثقة في قدرة هذا المجال على تحقيق الربح في سوق العرض والطلب من جهة، ومن جهة أخرى، نجاعته كمّا وكيفا في خوض مغامرة ثقافية تلبس شكل المشروع المتكامل المحيط بمجالات الفكر والابداع وبالسوق في الآن نفسه.
غير أن انتعاش القطاع الخاص، إذا ما بُني (ولن نقول انبنى) على تقليص حيز القطاع العمومي ومساهمته في بناء المشهد الثقافي والفكري والوطني المنوط بعهدته، فهو لن يمسّ أحيزة أخرى مازالت تبحث عن قوّة استثمارية تحيي قطاعات جديدة وتوفّر يدا عاملة وفرصا إضافية لملء الفراغات وسدّ الثغرات وتوسيع هامش المجال الثقافي الذي خلناه يتآكل في ظل توسّع مجالات أخرى تتراوح بين الأكثر نفعا والأشد خطورة على المتلقين خاصة الشباب منهم.
يختلف وضع القطاع الثقافي والتعليمي عن القطاع الصحي مثلا، إذ يضطلع القطاع الخاص، في المجال الأخير(الصحي) بدور تكميلي، لا يرتقي إلى دور التعويض المطلق والتام، فيوفر بعض الكماليات أو الرفاهية، في حين يبقى القطاع العام على نواقصه، مرجع النظر بالنسبة الى عامة الشعب لما يتوفر عليه من تجهيزات وخاصيّات تحتكرها الدولة وتسعى لدمقرطة توظيفها بالنسبة الى شتّى شرائح المجتمع، في حين يبدو الأمر فيم يتعلق بالقطاع التعليمي والثقافي والإعلامي أكثر تعقيدا.
للوقوف عند هذه الفكرة لا يفوتنا أن نعترف أنّ علاقة المجالات الثلاثة التي أتينا على ذكرها تحمل من التشعب والتناقض والاتصال والانفصال ما لا ندعي القدرة على الخوض فيها في خضم هذا المبحث ولا الحسم فيها عبر مباحث أكثر توسعا، فالمسألة اشكالية تتحمل وجهات نظر مختلفة ومتباينة. وعلى الرغم من استحالة الجزم بطبيعة هذه العلاقة إلّا أنّنا نعتقد أنّ الثقافة بما هي "صقل النفس والمنطق والفطانة"- إذ يقوِّم المثقف نفسه بتعلّم أمور جديدة، تعتمد التعليم باعتباره آلية إجرائية لاكتساب معارف نظريّة و/أو ممارساتية، ومن هنا فإنّ أي خلل يصيب آلية التعليم ، ينعكس بشكل مباشر على المنتوج الثقافي ومن هنا أيضا نذهب بالقول بأنّ مشروع خوصصة التعليم ينخرط ضمن مشروع أكبر يروم تطويع الثقافة لأغراض سوسيوسياسية، وأبعاد اقتصادية وتصوّرات مجتمعية لها معالمها، منها ماهو مدرك ومنها ما يزال قيد التبلور.
I- في تلمس اشكالات قطاعي التعليم والثقافة
رجوعا إلى مبدئ تشعّب مسألة تخصيص القطاعات التعليمي والثقافي وحتى الاعلامي نسلّط الضوء على مسألة أساسية تجعل من هجرة الثقافي والتعليمي إلى الخاص مسألة مُربكَة ودقيقة إلى حد الخطورة. إذا ما تجاوزنا التعريفات الأولى لمفهومي العام والخاص وأنزلنا هذه المفاهيم على أرض الممارسة نقول أنّ العام والخاص محمولان على أن لا يتركا فراغات للممارسات العشوائية، سواء كان ذلك في مجال التعليم أو الصحة أو الثقافة حتّى لا تتكوّن كيانات خارجة عن السيطرة قد تتفاقم كالأورام دون تأطير فتنتج تطرّفات وانحرافات، ولكن ذلك يجب أن يكون، في المقابل، دون أن يتغوّل مجال على حساب الآخر ودون أن يلتهم حيز حيزا آخر أو ينحسر قطاع تحت دكتاتورية قطاع آخر، ولن نبالغ إن قلنا أنّ واقع القطاع التعليمي والثقافي الابداعي في تونس يمرّ بهذا المنعرج الصعب الذي يتعاظم فيه مجال الثقافي والتعليمي الخاص أمام اندحار الحيّز العمومي في ذات القطاعات ولن نخفي، في هذا المبحث، تخوفنا أن يكون اندحار القطاع العام في هذه المجالات ممنهجا ومقنّنا ضمن استراتيجيا لا تجد لها مقاومة ذات فاعلية من المنتفعين المباشرين من القطاع الخاص ولا من العاملين به، ولا من الدولة باعتبارها سلطة الإشراف التي تضع الخطط لحماية مرافقها العامة من الانهيار والارتداد إلى الخلف.
يتوجّه القطاع الخاص عموما إلى الشريحة التي لا تتمكّن القطاعات العامة من مسحها أو تلبية طموحتها ففي التعليم الخاص مثلا كانت الفلسفة المعتمدة من قبل المعاهد أو الجامعات الخاصة هي تمكين المتعلمين غير القادرين على مواصلة تعليمهم في القطاع العام ويبحثون عن فرص أخرى للالتحاق ببقية زملائهم وتحصيل العلم. ويوفر القطاع الخاص في الصحة هامشا من الرفاهية والعناية التي تبحث عنها الشريحة الميسورة القادرة على دفع ثمن الرفاه وليس حق الصحة الذي يوفره القطاع العام بصفة مبدئية. من هنا يمكن أن نتحدّث عن تكامل، ولا نقصد بمبدئ التكامل من هذا المنظور المعنى السطحي والمبتذل للكلمة ولكن نركّز على المعني الواقعي والمادي الملموس والحسابي النسبي. ما يحدث منذ فترة في تونس هو زحف للقطاع الخاص في المجال التعليمي والثقافي الابداعي في مقابل تراجع للقطاع العام من حيث المساحة والنوع، ولئن تفيد الأرقام بأنّ هذا الواقع ما يزال ظاهرة ولم يمرّ بعد إلى التحّول الجذري العميق، إلا أن دراسة الأسباب والمعطيات يحيلنا إلى التفكير في ضرورة الوقوف عند العلل لتمثل الحلول المناسبة حتى لا يُغطي أحد المجالات حيزه وتجاوزه ويتطفّل على الحيز الآخر ولا يهاجر الثقافي العام فيفقد حياده وموضوعيّته والمنطق التحليلي، كما لا يصبح التعلّم حكرا على الميسورين وأبناء الطبقة الغنية. أمّا أسباب تغوّل الخاص على العام في مجالات التعلّم والثقافة فهو راجع في اعتقادنا، إلى ظرفية علليّة متشعبة يمكن أن نختزل تشعباتها في ثلاث حزم وهي: علل متعلقة باستفادة القطاع الخاص من خصال مبدئية يرتكز عليها القطاع العام، وعلل تتصل بعجز القطاع العام على التمسك بمكتسباته البديهية والجوهرية والعجز عن الانفتاح على المحيط وعلى الآخر وعلى العصر، أما النوع الثالث من العلل فيرتبط بغياب الإرادة السياسية في تقليص هيمنة لوبيات ثقافية تجد تفرعات لها في مجال الإعلام والسياسة والاقتصاد، ومن خلال هذه الدراسة نودّ الوقوف عند هذه الحزم العللية ليس من باب التذمر أو التنديد ولكن من باب التحليل والتنبيه الى الانحرافات التي قد تبدو بسيطة ولكنّها تأخذ أبعاد هامة ذات وقع عميق مع مرور الزمن.
أ- عجز القطاع العام في تونس على الالتزام بوظائفه الجوهرية والانفتاح على وظائف تكميلية: يبقى القطاع العام في تونس على الرغم من تماسك هياكله مؤسساته في تراجع تترجمه نزيفات من حيث مرتاديه والمعتمدين عليه وتقلص هامش الثقة التي تعوّدَت على منحها له الذواتُ المتعاملة مع هذا القطاع، فنحن نشهد في كل سنة هجرة التلاميذ والطلبة وحتى المدرسين إلى القطاع الخاص، وليست الهجرة التي نتحدث عنها تلك الطبيعية التي يضطر إليها المتعلمون المحرومون من فرصة المواصلة في التعليم العام ولكنّنا نخص بالذكر المتعلمين الباحثين عن ظروف تعلمية أفضل من المتوفرة في القطاع العام من حيث جودة التعليم، نجاعته، قدرته على منافسة التجارب في العوالم المتقدمة، الموفرة لإمكانات عديدة منها اللغوي ومنها التكنولوجي ومنها البيداغوجي لإذكاء قدرة المتعلم على الاستيعاب والانتاج. ولعل ما يزيد الذاوات المتعلمة نفورا من القطاع العام هو أولا نسب البطالة لحاملي الشهادات وتزايد هذه النسب من سنة الى أخرى، وثانيا التقهقر المتواصل لمراتب الجامعات التونسية بين بقية الجامعات حتى مقارنة بالجامعات التي كانت تأتي في مراتب متأخرة بالنسبة إلى الجامعات التونسية في سنوات ماضية...
وعلاوة عن تدهر مستوى خرجي الجامعات التونسية مقارنة بمستويات زملائهم المتخرجين قبل عقود قليلة ماضية، فإنّ المادة المدرسة لا تتوافق أحينا كثيرة مع الكفاءات والكفايات المطلوبة في سوق الشغل وهنا يتناقض العرض مع الطلب المتضائل بطبيعته لأسباب اقتصادية في علاقة بالإنتاج والانتاجية وبالتطور المتواتر للتكنولوجيا والمعلومات والتقنيات والافكار...
لم يعد القطاع الخاص في مجال التعليم قادرا على تلبية طموح المتعلمين فخُلق العزوفُ لديهم ليس من أجل المكمّلات (كحال القطاع الخاص في مجال الصحة مثلا) ولكن من أجل تحصيل الوظيفة الأساسية والجوهرية المنوطة بقطاع التعليم.
أما بالنسبة لمجال الثقافة والابداع فإن القطاع الخاص مازال يسبح في آفاق لا تتداخل بالضرورة مع آفاق القطاع العام وهو ما لا ينفي انبثاق أحيزة لولادة مشاريع ثقافية تبشر بانفتاح مجالات جديدة للإبداع والفكر ولكنها تدعو رغم ذلك إلى الحذر من هيمنة القطاع الخاص على المشهد الثقافي واحتكار المبدعين وتوظيفهم لأغراض أخرى غير البحث والمعرفة والابداع والخلق وخدمة الفكر.
ولا تعود محدودية فاعلية القطاع الخاص في المجال الثقافي لتماسك القطاع العام في ذات المجال أو لتشجيع الدولة للثقافة ودعمها مما لا يترك فرصا للمنافسة، بل على العكس تماما إذ أن الميزانية المرصودة من قبل الدولة في المجال الثقافي لا تتجاوز %1 من قيمة الميزانية العامة للدولة...وإنما تعود بالأساس إلى تهميش دور المثقف في تونس ومصادرة آرائه لسنوات عديدة وتوظيف ابداعه في خدمة السلطة او المعارضة وعدم سنّ قوانين تحميه وتحمي حقوقه الفنية بالدرجة الكافية هذا بالإضافة إلى العراقيل الماديّة التي يواجهها والمثقف من أزمات الهوية وتهم التبعية والتقليد وما الى ذلك من المشاغل الأخرى والتي تعيق مسيرته.
ب- استفادة القطاع الخاص من مزايا القطاع العام: ركّز قطاع التعليم الخاص في السنوات الأخيرة على مبادئ ثلاثة هي: تطوير الجانب التكويني والمعرفي من حيث الجودة، تحسين ظروف التكوين وتوفير الطرق المناسبة لتمرير المعرفة وتلقيها، الاعتراف الرسمي وأحيانا الدولي بالديبلومات المسلّمة من طرف المؤسسات الخاصة.
ت- غياب الارادة السياسية لتقليص هيمنة لوبيات ثقافية تجد لها تفرعات في مجال الاعلام والسياسة والاقتصاد: ما يثير الاستغراب في مجالات الفكر والثقافة والفنون أن معايير الكفاءة لا تتوافق دائما مع الاشعاع والمكانة المسندة للمثقف، فقليلا ما نرى الباحثين والمختصين في الثقافة على رأس المؤسسات الثقافية أو كمراجع تُقدّم عبر وسائل الاعلام لتحقق الاستفادة، حتى صار المخيال الجمعي التونسي للثقافة والفنون يأخذ شكل أشباه المثقفين وهم ليسوا أكفاء بالقدر الكافي للتنظير أو لقيادة المجتمع إذا ما آمنا بأن المثقفين هم القاطرة التي تجر خلفها المجتمعات نحو الرقي والتطور.
II- تجارب مقارنة في التصدي لهيمنة التعليم الخاص وفي دعم القطاع الثقافي العام ومساهمات المجتمع المدني في الاستنهاض الابداعي( من خلال نماذج من تجارب في تونس والخارج).
أ- التصدي لهيمنة التعليم الخاص: التجربة الروسية نموذجا:
"تقلّص السياسة العامة الحالية المنافسة في القطاع (الخاص) ويبدو انها ازالت اي فرصة لوجود نخبة بديلة روسية متخرجة من جدران مؤسسات التعليم العالي الخاص في يوم ما ." بهذه الخلاصة حوصلت الباحثة تاتيانا كاستويفا جان بحثها حول المؤسسات الجامعية الروسية الخاصة. لقد بينت الباحثة أنّ الدولة الروسية لم تترك مجالا للمؤسسات الجامعية الخاصة لتراهن على مبدئ "الجودة" في قطاع التعليم العالي باعتبار أنّها رسمت خطة إصلاحية متكاملة للتعامل مع قطاع التعليم بصفة عامة ومجال التعليم العالي بصفة خاصة كهدف استراتيجي لا تعوّل عليه الدولة من الناحية العلمية والفكرية البيداغوجية فحسب، بل ومن الناحية الاقتصادية كذلك، لا سيّما وأن الفاعلين السياسيين الروسيين يطمحون إلى تحقيق مداخيل تقدّر ب5 مليار دولار سنة 2020 متأتية أساسا من الطلبة الأجانب المزمع استقطابهم، هذا بالإضافة الى رفع رواتب الأساتذة الجامعيين إلى ما يضاهي الرواتب المعتمدة بالنسبة إلى زملائهم في الدول المتقدمة.
من أجل الوصول إلى هذه النتائج وضعت السياسة الروسية خطّة ترتكز على اصلاحات في مجال التعليم العالي العام تحتكم إلى مبدأين أساسيين هما:
- رفع درجة الاكتفاء الذاتي للمؤسسات الجامعية الروسية العامة والمخابر ووحدات البحث من حيث إطار التدريس والبرامج المعتمدة والمواد العلمية...
- تحسين سمعة المؤسسات الجامعية العامة والمخابر ووحدات البحث وتدعيم اشعاعها ومكانتها عالميا.
تُرجِمَت هذه الارادة السياسية الروسية -من أجل تحسين أداء قطاع التعليم العالي العام- عبر قوانين ووعود ألزم بها الرئيس الروسي بوتين الفاعلين السياسيين والمؤسسات الجامعية على حدّ السواء، ومن بين هذه القوانين نذكر قانون 1سبتمبر 2013 والذي يقضي بإجبارية تقديم تقارير عن البرامج المعتمدة والنتائج المتوصَّل إليها، فضلا عن تكريس مبدأ الشفافية المتصلة بالمسائل الإدارية والتقييمات المعتمدة لرفض أو قبول ملفات الطلبة، وذلك بغية تحسين جودة التعليم العالي. كما يسمح هذا القانون ل40 مؤسسة جامعية روسية عامة بالاعتراف بديبلومات الطلبة القادمين من الخارج لمواصلة تعليمهم العالي بالجامعات الروسية. وفي ذات السياق اتّخذت وزارة التعليم العالي الروسي اجراءات حازمة للحد من "شهادات المجاملة" وغير الجدية والتي ظهرت بقوّة بعيْد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومن الوعود التي ترجمت الإرادة السياسية في الإصلاح يمكن أن نعرّج على وعد قطعه الرئيس بوتين في جويلية 2012 يخصّ استثمار 175 مليون أورو ضمن مشروع لتطوير التعليم يراد منه ضمان تصنيف 5جامعات روسية من أفضل 100 جامعة عالمية سنة 2020.
وقد واجهت الدولة الروسية آفتين خطيرتين لم تستثنيا معظم الدول في العالم هما: وفرة خانقة في عدد المتخرجين الجامعيين وعجز سوق الشغل على استيعابهم بالدرجة الكافية من جهة، ونقص جاهزية الخريجين لخوض التجربة المهنية وقلة نجاعة تكوينهم، وصعوبة ادماجهم ضمن النسيج المهني وتحقيق الاضافة المنتظرة منهم من جهة أخرى. وجاءت خطّة الدولة الروسية في شكل إجراءات مؤلمة نسبيا ولكنها استراتيجية على المدى المتوسط والطويل. ومسّت هذه الإجراءات القطاعين العام والخاص على حد السواء:
أ- بالنسبة إلى القطاع الخاص: حدّدت الدولة الروسية الاختصاصات التي يمكن تغطيتها في التعليم الخاص. وعبر التحكم في رخص تُعنى بـ"الحق في ممارسة نشاط تعليمي" (Le droit à une activité d’enseignement) التي تقدمها وزارة التربية والعلم لمؤسسات التعليم العالي الخاص، حدّت الدولة من المؤسسات التي تخرج أصحاب شهادات في اختصاص الحقوق والاقتصاد وسمحت في المقابل للمؤسسات الجامعية الخاصة بالخوض في مجال الهندسة والتقنيات مع التركيز على جودة التعليم عبر اشتراط " الاعتماد" (Accréditation)، يعني أن تكون المؤسسة الجامعية "معتمدة" (Accrédité) (ويتجدد الاعتماد كل خمس سنوات) حتى يخوّل لها (أي المؤسسة الجامعية الخاصة) إسناد شهادات معترف بها من الدولة الروسية. وعلى الرغم من الإجراءات المؤلمة التي اضطلعت بها الدولة الروسية لتقليص قدر ما يمكن مما تسميه" شهادات المجاملة"، فإنها وضعت في المقابل قانونا سنة 2012 يتمّ بمقتضاه السماح، ولأول مرة، بتمكين المؤسسات الجامعية الخاصة من الحق في المشاركة في مناظرة الحصول على مساعدات من ميزانية الدولة، إلّا أن المؤسسات الجامعية الخاصة قليلا ما تنجح في مثل هذه المناظرات ويبقى الدّعم في معظمه حكرا على المؤسسات الحكومية والتّي ما انفكت تشهد تحسينات وتطويرات صعّبت على القطاع الخاص المنافسة الجدية.
ب- بالنسبة إلى القطاع العمومي: أمام ما خلّفه انهيار الاتحاد السوفياتي من فوضى واضطرابات في شتّى القطاعات ومنها قطاع التعليم العالي- حيث وجد 50% من الخريجين أنفسهم يعملون باختصاصات غير التي تكوّنوا فيها- بادرت الدولة بالتصدي لنزيف منح الشهادات بسهولة في غياب الكفاءة المرجوة والتكوين المناسب، وذلك عبر تصنيف 136 مؤسسة جامعية باعتبارها "غير فعالة". ومن ثمة دمج مؤسسات التعليم العالي وتركيزها لتحقيق العدد المتماشي مع الثورة الرقمية دون الانحراف عن معايير الكفاءة ومبدئ الربح خاصة بعد تحول التعليم العالي تدريجيا إلى تعليم بمقابل وكذلك عبر خطّة متكاملة هدفها تحويل قطاع التعليم العالي إلى قطاع استراتيجي ذي قيمة مضافة عالية.
لم يتوان الفاعلون السياسيون في توفير سبل النجاح جلّها لبلوغ هدفهم المنشود فطوّروا الميزانية الفدرالية المخصصة للتعليم العالي بصفة تتماشى وحجم التحدي، وارتفعت الميزانية من 1.5مليار أورو سنة 2003 إلى 10.5 مليار أورو سنة 2012، وقد تضاعفت نسبة المصاريف المخصّصة للتعليم العالي من جملة مصاريف قطاع التعليم إلى 70% سنة 2012 في حين لم تتجاوز هذه النسبة 23% سنة 2004.
عبر هذه الإصلاحات وإصلاحات أخرى عرفت الدولة الروسية التقليص من هجرة الطلبة إلى التعليم العالي الخاص فرسمت حدود حيّز التعليم العالي الحر وحصرته في اختصاصات معينة وضبطت شروطا حازمة للاعتراف بالشهادات المسندة من قبله، ولكنها في المقابل لم تترك له مجالا للمنافسة لعمق الإصلاحات والتحسينات التي أدخلتها على التعليم العالي العام.
مثلت التجربة الروسية في اعتقادنا نموذجا للتجارب التي تتناغم فيها الشعارات المرفوعة مع الإجراءات المتخذة لتحقيق الأهداف القريبة والبعيدة، ورغم أنّنا لا نزعم أنّ التشابه بين المشهدين الروسي والتونسي عميق إلّا أنّنا لن نحيد عن الواقعية إذا ما دعونا الدولة التونسية إلى الاستفادة من التجربة الروسية في وضع استراتيجيا متكاملة واتخاذ الاجراءات اللازمة حتى إذا بدت مؤلمة أحيانا مع ضرورة مراعاة الخصوصيات التونسية لا سيّما ذات الطابع الاجتماعي منها.
ب- الثقافة خيار استراتيجي للدولة: التجربة الفرنسية نموذجا: قد يتبادر إلى الذهن أحيانا شيء من الاحتراز عندما نربط بين الدولة والثقافة لاسيما وأن البلدان التي ترزح تحت وطأة الديكتاتورية تجد حرجا في الفصل بين جانب "التعديل" الذي تتقمصه الدولة في المجال الثقافي (كلما اقتضت الحاجة ذلك ) ودور الوصي الذي يلجم الحريات، هذا فظلا عن الخلط أحيانا بين استقلالية الفكر والثقافة والمعارضة. ويأتي اختيارنا للتجربة الفرنسية في هذا الخضم، الذي نريد من خلاله إبراز أهمية أن تكون الدولة محفّزة للإبداع والفن والثقافة والابتكار من ناحية، ومقومّة للانحرافات ومانحة للفرص وضامنة للجودة والجد.
لطالما اعتبرت فرنسا الثقافة ركيزة أساسية تراهن عليها في تمرير مشاريعها وأفكارها وتصوّراتها وليس أدلّ على ذلك من المؤسسات الحكومية الفرنسية الموجودة تقريبا في كل بلدان العالم على غرار دار فرنسا (Maison de France)، المعهد الفرنسي (Institut français) …وفي هذا الإطار يقول المنظر الفنان محمد القاسمي في رسالة إلى وزير الثقافة المغربي: "تمتلك فرنسا مراكز ثقافية في كل المدن المغربية الكبرى (...) ولا حاجة لأذكركم سيدي أن بلادنا لا تمتلك أي مركز أو دار ثقافي في فرنسا مثلا" ثم يضيف: " إن البلد الذي يترك ثقافته ولا يحسن إظهار ميزاتها الانفتاحية ويتناسى نشرها ويسهو عن وهب فرصة الاضطلاع بالمعرفة وتمريرها للأجيال بوسائل ونظرة جديدة للعالم يكون قد أهمل ذاته." ولم تهمل الدولة الفرنسية مبدأ في غاية الأهميّة تشتغل عليه بالكثير من الحرفيّة وهو التسويق لمبدعيها ومفكريها، إذ أنّها تكوّن موظفين يشغلون كملحقين ثقافيين وهم على دراية كافية ومتعمّقة بالثقافة الفرنسية وروادها وبمستجدات الساحة الثقافية وهم جاهزون من خلال تواجدهم خارج الأراضي الفرنسية للتعريف بمفكريهم ومبدعيهم ومنظريهم. تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن هذه الخطة الوظيفية غائبة في معظم الأحيان كغياب المؤسسات الحكومية الثقافية في الخارج، وان وجدت هذه الخطّة فإن من يضطلع بها في معظم الأحيان يفتقر إلى المعرفة الكافية والتكوين اللازم لأداء هذه الوظيفة على الوجه الأمثل.
لقد كشف الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران (François Mitterrand) سنة 1981 خلال ندوته الصحفية الأولى عن استراتيجيته السياسة المنوطة بالثقافة تحت شعار "الأعمال الكبرى"، وقد قاد هذا التوجه وزير الثقافة جاك لانق (Jack Lang) الذي دفع إلى تسريع التحديث والانفتاح على المجتمع المعاصر من ذلك الزيادة في الميزانية، وتوسيع نطاقها وفتح الأبواب على مصراعيها على أشكال جديدة من الفنون. ولقد ترجمت هذه الارادة السياسية لدعم الثقافة عبر الانجازات الكبرى (تدشين متحف اللوفر وقوس الدفاع ودار أوبرا الباستيل، والمكتبة الوطنية ومعهد العالم العربي..). وقد ساعد مناخ التشجيع على الخلق والإبداع المفكرين والفنانين على النبوغ والتميّز ولعلّنا لا نبالغ في وصفنا هذا اذا ما استذكرنا أعمال جان نوفال، كريستيان دو بورتسامبارك، دومينيك بيرو ...). ولا يقف تشجيع الدولة الفرنسية عند الفانين والمعماريين والمفكرين المعروفين بل كرّس الرئيس الفرنسي مبدأ المنافسة عبر بعث مؤسسات حكومية تعنى بالتراث والفنون والثقافة فضلا عن فسح المجال للمبتكرين والفنانين المغمورين ليشاركوا في مناظرات توفّر فيها الدولة كل المساعدات اللوجستية وتمكنهم من منح هامة ثم تضمن للفائزين التكفل باعتماد منتوجاتهم من طرف المؤسسات العمومية كدعم منها للباحثين الطموحين وإيمانا منها بقيمة الكفاءة والاجتهاد في مقابل سلوكيّات المحاباة ومنطق المجاملة أو تقديم المصالح الخاصة المعمول به في معظم دول العالم الثالث.
كانت فترة الثمانينات مناسبة لظهور المؤسّسات الخاصة المعنيّة بالثقافة وقد شهدت هذه الحقبة ولادة عدد كبير من المستثمرين في الفن من أصحاب المعارض وصانعي نجوم الفن، كما تطوّر سوق الابتكار ومن أجل ذلك ارتأت الدولة الفرنسية، وعبر توجه فكري سياسي لشخصيتين مثقفتين ذوتا رؤية عميقة (فرنسوا ميتران وجاك لانق)، أن تواجه تغوّل القطاع الخاص وتعديل المشهد حتى تحافظ على مبدئي الجودة والحق في المشاركة في إثراء الساحة الثقافية عبر الاهتمام بالمبدعين المغمورين ودفعهم نحو الإنتاج والخلق وعبر المناظرات المختلفة والمتعددة الاختصاصات وعبر منظّمات المجتمع المدني والتي يمكن لها أيضا القيام بدور وطني وتعديلي هام لسدّ ثغرات عجز عن معالجتها القطاع العمومي والقطاع الخاص. ومن الإصلاحات التي قامت بها الدولة الفرسية ومن أجل محاربة احتكار السوق من قبل المتاجر الكبرى للبيع بالتفصيل مثل FNAC أو محلات السوبر ماركت نذكر مثلا قانون لانق سنة 1981الذي يحدّد سعرا موحّد لكل كتاب. كما أنشئت الكلية الدولية للفلسفة، تحت ادارة فرانسوا شاتليه، جاك دريدا، جان بيار فاي ودومينيك لوكور.
ت- اسهامات المجتمع المدني في الاستنهاض الثقافي: الجامعة الشعبية محمد على الحامي في تونس نموذجا: "أتي مشروع الجامعة الشعبية تأسيسا على مبدأ استحقاقي أساسي لا تلبّيه مختلف أشكال وهياكل التعليم الأخرى عمومية كانت أم خاصّة (بفعل طبيعتها ذاتها) : الحقّ الكوني والمطلق في اكتساب وتبادل وتداول المعرفة النظرية والعملية بشتّى أبعادها دون أيّة معايير أو شروط إقصائية مهما كان نوعها (العمر، المستوى التعليمي، الوسط الاجتماعي، الوضعية الاقتصادية" بهذا التقديم استهل الكاتب والمثقف كمال الزغباني، وهو أحد الأساتذة المتطوّعين للتدريس بالجامعة الشعبية محمد على الحامي حديثه عن مشروع الجامعة.
لقد سبق وتحدثنا في بداية المبحث عن ضرورة ألّا يكون هناك تداخل بين القطاع العام والخاص لا سيّما في مجال التعليم والثقافة ذلك أنّ تغوّل القطاع الخاص على القطاع العام في هذا المجال يفرز أقليّة برجوازية مثقفة فيم يكتفي عامة الناس بقدر متدنِّ من المعرفة والعلم وفي ذلك تعميق للطبقية وغياب لدمقرطة التعليم والمعرفة.
تبقى الدولة هي المسؤول الأوّل عن تعميم التعليم وجودته وقد رأينا كيف أن بعض الدول على غرار روسيا تمكنت من الارتقاء اللافت بجودة تعليمها وخاصّة منه التعليم العالي ووضع حدود لسيول المتحصلين على شهادات عليا لا تعبر عن اكتساب كفاءة كافية ولا عن جاهزيّة تشغيلية. من ثمة يكون من المهم تنظيم الأحيزة بين القطاع العام والقطاع الخاص من مهام الدولة التي تضبط قوانين وخططا لكي لا تعمّ الفوضى أو تنتصر السطحية والرداءة. ولا يمكن للدولة أن تقوم بالمهام الموكلة إليها إلّا بعقيدة وإرادة سياسية تترجمها إجراءات فعلية وقوانين منظّمة ولعل الدولة التونسية مازالت لا تحسن المطابقة بين الجانب النظري وتنزيله على أرض الواقع، ومازال نزيف "شهادات المجاملة" كما تسميها الدولة الروسية في اقصى تدفقه وأقسى مظاهره ومنها عدد الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل والمتحصلين على تكوين لا يلقى طلبا في سوق الشغل لا على المدى القريب ولا المتوسّط. وعلى الطرف الآخر من المشهد، يقف عدد هام من الحالات الاجتماعية المحرومة من مواصلة تعليمها لسبب أو لآخر والتي تحتاج إلى تأطير، وترغب في تدارك ما فاتها عبر فرصة أخرى، لا يمكن أن يمنحها التعليم العمومي ولا التعليم الخاص باعتبار ارتفاع كلفته من ناحية، وتمركز جودة التعليم في بعض المؤسسات الخاصة والتي تتضاعف فيها الكلفة (المرتفعة أصلا في بقية المؤسسات الخاصة الأخرى والأقل جودة من حيث الفاعلية والجدية). في هذا الحيز بالذات وجدت الجامعة الشعبية محمد علي الحامي لها مكانا لا يتطفّل فيها على المؤسسات التعليمية العمومية، ولا يستغل حاجة الذوات الباحثة عن فرصة ثانية لتدارك ما سقط عنها من علم وثقافة ومعرفة، لتبتزّهم. زد على ذلك، أنها لا تساهم في مزيد هجرة المتعلمين من القطاع العام إلى القطاع الخاص والباحثين عن ظروف تعليم أفضل وامكانات ووضعيّات أكثر ترغيبا في تحصيل المعرفة ومواصلتها دون معاناة( كالتي يعيشها عدد ليس بضئيل من التلاميذ والطلبة وحتى الأساتذة في قطاع التعليم العام).
فتَحًت الجامعة الشعبية محمد علي الحامي أبوابها في بسيدي حسين السيجومي يوم 13 فيفري 2016 وهي نتاج لتظافر مجهود عدد من جمعيات المجتمع المدني: جمعية 1864 واتحاد اصحاب الشهادات المعطلين عن العمل وحركة "زواولة"، وقد عزمت هذه الجمعيات والمنظمات بمعيّة عدد من الأساتذة الجامعيين والمثقفين عن سدّ الفراغ الذي غفل أو تغافل عن معالجته الفاعلون التقليديون في مجالات التعليم والثقافة والابداع، على الرغم من حساسية الظرفية السوسيولوجية والاقتصادية التي تعيشها شرائح المجتمع التونسي والشريحة المفقّرة بصفة خاصة، ممّا يترك الثغرات الكافية للتطرف والظلامية والارهاب وفي هذا الاطار يقول كمال الزغباني:" إنّ أبناء الأحياء الشعبية عموما يعيشون حالات مركّبة من الإحباط والتهميش والإقصاء المؤدية إلى شتّى أصناف الانحراف والنقمة والهروب إلى حلول انتحارية غالبا (الإدمان بأنواعه والهجرة السرية و/أو التعصّب الديني للوقوع ضحية عصابات إجرام وتهريب أو جماعات إرهابية). وليس أفضل من التفاعل المعرفي الحرّ سبيلا لتقليص تلك النزعات السلبية والخطرة.".
لئن بدا موضوع المبحث المتعلق بقطاع التعليم الخاص ومصائره في غاية الأهمية -ولكن أيضا الاتساع والتشعب مما جعلنا مجبرين على تخير محاور مبحثية معينة- فإن فكرتنا الرئيسية تقوم على مبدئ ضرورة الفصل بين مجالات العام والخاص وعدم السماح بتداخلها وتراكم الهياكل المؤدية لنفس الوظيفة والمشفوع (أي التراكم) بتدهور دور الدولة وغيابها، مما قد يحيل إلى الفوضى وتعميق الهوة بين الطبقات (خاصة بالنسبة للتعليم) أو تدجين المجتمع حول ثقافة أو فكر معين تُستخدم فيه عديد الآليات والوسائط السمعية البصرية. أمّا تأمين هذا الفصل فهو موكول إلى الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها ورجالاتها. فأمّا أن تلعب دور المصلح في حال بروز علامات أزمات ومآزق و هو فعلا حال الدولة التونسية، أو أن تقوم بدور التعديل والتحفيز وهو الدور الذي تقوم به الحكومات في الحالات العادية لتصحيح الانحرافات الخفيفة، حتى لا تضطر إلى الاجراءات المؤلمة والتي لا مهرب منها سواء قصر الوقت أم طال ولا يؤدي تأجيل الخوض فيها واعتماد الحلول "التلفيقية" الّا الى مراكمتها وتغذيتها لتكبر بل لتتغول.