الصفحة 4 من 4
جدل التأثير
لم يتوقف تأثير صباح فخري يوماً على الأجيال الجديدة التي ظهرت بعده، فقد بقي الأمثولة والقدوة والقمة التي لا يحلم بالوصول إليها أي من مقلديه، فكانوا يكتفون بتقليده كشيخ طريقة أكثر من الرغبة بتجاوزه. واتخذ هذا الجدل بين صباح فخري والآتين من بعده أشكالاً عديدة، فقيل إن بقية المدن السورية عجزت عن إنتاج مطرب بحجمه كما فعلت حلب. ثم قيل إن الأديان والطوائف السورية بحثت عن مرادف لصباح فخري فلم تفلح في صنع نسختها منه. فاكتفى هؤلاء بالسير على نهجه وترداد أغانيه، محتفظين له بمكانته العصية على التكرار.
من طرفه حاول صباح فخري فعل ما لجأ إليه مطربو زمنه، مثل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وآخرين، فشارك في أفلام سينمائية مثل “الوادي الكبير” مع وردة الجزائرية، و”الصعاليك” مع دريد لحام ومريم فخر الدين. وظهر في أعمال تلفزيونية دينية وأخرى توثيقية مثل “أسماء الله الحسنى” مع عبدالرحمن آل رشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، و”نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري. إلا أنه وجد أنه لم يكن بحاجة إلى دعائم للمرتبة التي كان يحفرها لنفسه لدى الجمهور. فيكفيه الطرب الحلبي الذي بات سفيرا له في أنحاء الأرض.
كان صباحي فخري يقول “أصبحت جماهيرنا واسعة بعد الفضائيات. ولذلك صار يمكن أن نرى أطفالاً من بين جمهورنا على الشاشة. وكذلك يمكن أن نرى شبابا بين الجمهور. الجيل الآن جيل مختلف ويستطيع التمييز”، ويضيف في رأي قد يجده البعض مختلفا عن تلك الحسرات على الجيل الجديد من الجماهير “الجمهور اليوم لديه استطلاع وهو ذكي جداً ولا يغرنّك ما ترى من مظاهر مبدئية. أما الزبد فيذهب جفاء”.
ثقته تلك بالجمهور وبفنّه معا جعلته يؤمن بأن الموسيقى موجودة في الكون قبل الإنسان، في حفيف الشجر وخرير المياه. والإنسان يمتلك الصوت وقلبه أكبر ضابط إيقاع. كان يقول إن “النبات حين يستمع إلى الموسيقى يعطي إنتاجاً أكثر. والطفل من صغره يسمع الهدي من الأم. معنى ذلك أن الموسيقى حقيقة كونية”.
هي إذن معادلة أبعد من الفن. تصل ذلك المغني الذي عبر من عصرنا عبوراً، ترك ظلاله الكبيرة كما تصل الحقيقة الروحية. وحين يقول إن الجيل الجديد من الفنانين جاءته الحياة على طبق من ذهب، بالقياس إلى معاناة جيل صباح فخري، يردف ذلك قائلا، إن ما ينقص هذا الجيل فقط التثقّف والمعرفة. وهو الذي بقي يردّد في كافة حواراته الصحافية أنه لا يزال يتعلم ويدرس لأنه يجب أن يواكب العصر كما كان يقول.
درس صباح فخري كان درسا طويلا للثقافة العربية، لمستهلكيها ومنتجيها ودارسيها. وسيبقى مجلّدا ضخما من القيم الفنية أراد له عرّابه البارودي الذي غنى له تلميذه من شعره “يمرّ عجباً ولا يؤدي السلام” أن يكون علامة دالة على الثقافة العربية ورسالة منها تعبر للتكوينات والأجيال.