موسوعة غينيس تحفظ في سجلاتها الرقم القياسي لصباح فخري حين غنى في كاراكاس بفنزويلا لعشر ساعات متواصلة.
لم يكن خبر رحيل المطرب السوري القدير صباح فخري هو المستغرب، بل وجوده في هذا العصر كان الأكثر غرابة، فهذا الفنان الذي لم يخرج قيد أنملة عن خط التراث الغنائي العتيق، بقي محافظاً على مكانته في زمن الرداءة الطربية وانتشار الإسفاف الفني، دون أن يتأثر، مذكّراً بجيل من الكبار تتابع غيابهم عن الساحة العربية وتآكل حضورهم في الوجدان يوماً بعد يوم.
صباح فخري، أو صبحي أو صباح الدين أبوقوس، كلها أسماء للرجل ذاته الذي جلبته أمّه من حلب ذات يوم من أيام أربعينات القرن العشرين، وعهدت به للزعيم الوطني السوري فخري البارودي الذي كان يؤسس آنذاك لأول معهد موسيقي عربي يهتم بالتراث وتدريسه ويؤهل المواهب ويدعمها.
فخري البارودي الذي حارب من أجل إعادة الاعتبار للموسيقى العربية، بالكتابة والدعم المالي والمشاريع ذات الأبعاد التنموية، فكرياً وفنياً، غيّبه الموت أواسط الستينات، لكنه استمر بفعل آثاره الجليلة، ومن بين الآثار استمرار حضوره كل مرّة يُذكر فيها صباح فخري الذي منحه البارودي اسمه تكريماً وتشجيعاً له، بعد أن اكتشف موهبته وقرّر تخصيص مرتب شهري له طيلة فترة دراسته في المعهد علاوة على دفعه إلى الإذاعة السورية والميادين العربية.
في حلب التي رأى فيها صباح فخري النور، العام 1933، لا يمكنك إلا أن تعثر على الطرب أينما التفت. فهذا النشاط الإنساني الرفيع جزء من هوية سكانها الأصلية، وعادة من عاداتهم الاجتماعية. زاد من ذلك البعد الصوفي الذي اشتهرت به المدينة العريقة، والذي اعتمد كلياً على المديح والقدود في الحضرات ومجالس الذكر. ومن هذه المدينة اشتقّت الموسيقى العربية حداثتها المتصلة بالتراث وجذوره، على يد شيوخ الطرب الكبار فيها، وعلى يد من درسوه في أحيائها وليس أقلّهم موسيقار الشعب سيد درويش الذي عاد منها إلى مصر إنساناً آخر وقدّم ما قدّم من إنجاز تحديثي لا يزال الموسيقيون ينهلون منه.
وسط تلك الأجواء برزت موهبة صباح فخري، ابن مقرئ القرآن والمنشد الصوفي، ولم يكن من منفذ لتلك الطاقة سوى بالتفرّد في الإنشاء الديني، وعلى رأسه الأذان الذي تدرّب عليه وأتقنه، وبعد أن درس في “المدرسة القرآنية” التي حفظ فيها في القرآن وأصول اللغة العربية وعلم البيان والتجويد، بدأ يغني في الموالد والمآتم، إلى أن صار يعمل مؤذناً، بعد أن تم تعيينه كموظف شرعي في مديرية أوقاف حلب ومؤذن في جامع الروضة فيها. وكل ذلك قبل أن يتجه إلى دراسة الموسيقى في معهد حلب ثم في معهد البارودي كما أسلفنا.
صراع التحديث
في شخصية صباح فخري يتجسد صراع الحداثة مع التراث، وفي مسيرة حياته منذ البداية، كان نقل الأداء الإنشادي من طبيعته الدينية إلى الساحة الفنية مسألة حياة أو موت لطرفين أساسيين حينها، المحافظون من رجال الدين، والمجددون مثل البارودي وتلاميذه. وكانت قصص رقص السماح، الصوفي والمخصص للرجال حتى ذلك الحين، والذي نقله البارودي إلى مدارس البنات خير دليل على ذلك. السماح الذي برع فيه صباح فخري وبقي محافظاً عليه حتى آخر سنين عمره يؤديه أمام الجمهور في حفلاته على خشبات المسارح، إضافة إلى الرقصات الرجالية الفلكلورية الحلبية.
ومن عالم الموشحات انطلق صباح فخري، فتعلّم أصول الصنعة على يد الأسطوات الكبار مثل الشيخ والشيخ عمر البطش وعلي الدرويش، ثم الموسيقيين الذين لا يكاد يذكرهم أحد اليوم مثل، مجدي العقيلي ونديم وإبراهيم الدرويش وعزيز غنّام. والأخير لا يعرف الكثيرون أنه هو صاحب اللحن الشهير “حامل الهوى تعبُ. يستخّفه الطربُ، إن بكى يحقّ له، ليس ما به لعبُ” والذي غناه صباح فخري بنفسه وغنّته مطربة حلب الراحلة زكية حمدان من كلمات أبونواس، لكنه نُسب لاحقاً إلى الأخوين رحباني بعد أن غنته فيروز.
ولأن حلب ليس قلعة حجرية وحسب، بل هي قلعة للموسيقى العربية بأسرها، فقد بقي صباح فخري ينهل منها طوال رحلته الفنية التي مرّت بمراحل عديدة بقي فيها دوماً ذلك المتمسك بالقدّ، والقدّ في الموسيقى ثابت جوهري لا يمكن الخروج عنه، مهما تنوعّت وتعدّدت أساليب المؤدي أو حتى أغراضه من أداء القطعة الغنائية. وكان أول موالٍ يؤديه صباح فخري، بعيدا عن الإنشاد الديني هو “غرّد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك”، بعدها قاده الشغف إلى الموشحات فقدم له الملحن السوري الراحل محمد رجب أول موشح في حياته وكان “يا هلالاً غاب”.
الوثيقة الحية
كان صباح فخري أكثر من مجرد مطرب، بل إن الناس تغاضت عن آرائه السياسية، واعتبرت فنه أكبر من مواقفه. فكان يمثّل في كل مرّة يقف فيها على المسرح سلسلة من العلامات البارزة في وعي الناس، سواء من خلال الشعراء الذين غنى لهم قصائدهم أو من خلال الملحّنين الذين ترنّم بموسيقاهم. فمن من مطربي هذا العصر غنى حول العالم قصائد لأبي فراس الحمداني أو للمتنبي، وكذلك لابن الفارض وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب، بالإضافة إلى الكلمات الجديدة التي وضعها شعراء معاصرون؟ حتى أن الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب حين استمع إلى أداء صباح فخري قال له “مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه”.
يتباهى محبو صباح فخري بأنه سجّل رقما قياسيا ودخل موسوعة غينيس حين غنى في كاراكاس بفنزويلا لعشر ساعات متواصلة، ومن يعرف حفلاته يدرك أنها لم تكن سابقة، فصباح فخري لم يكن يقف أمام الجهور ليغني فقط، إنما كان يطرب نفسه بنفسه، ويذهب في السلطنة بعيداً فتشعر أنه دخل في وجد صوفي لا نهاية له، فينسى الوقت والساعات ويستغرق في تحليقه الطربي حتى تتعب الفرقة الموسيقية وهو لا يتعب.
حضوره كان يكرّر على الناس السؤال الذاتي عن صدقية الغناء وأهميته في الحياة العامة، وقد مكنّه ذلك من الخروج عن إطار حلب ذاتها، حين غنى للرائد المسرحي أبي خليل القباني “يا طيرة طيري يا حمامة” التي ألفها الأخير ولحنها لتصبح أنشودة دمشق، بل إن صباح فخري اتسع به الحال ليصل إلى اللهجات العربية كافة، فغنى لسيد درويش بالعامية المصرية وبالفصحى كذلك كما في “يا شادي الألحان”. على أن العامية المصرية تحتل مكانتها في صميم الطرب الحلبي العتيق، ومن ذلك كلمات كتبها كبار الشيوخ وغناها صباح فخري أيضاً مثل “ابعتلي جواب” التي غناها شيخ كار الطرب في حلب الراحل صبري مدلل.
جدل التأثير
لم يتوقف تأثير صباح فخري يوماً على الأجيال الجديدة التي ظهرت بعده، فقد بقي الأمثولة والقدوة والقمة التي لا يحلم بالوصول إليها أي من مقلديه، فكانوا يكتفون بتقليده كشيخ طريقة أكثر من الرغبة بتجاوزه. واتخذ هذا الجدل بين صباح فخري والآتين من بعده أشكالاً عديدة، فقيل إن بقية المدن السورية عجزت عن إنتاج مطرب بحجمه كما فعلت حلب. ثم قيل إن الأديان والطوائف السورية بحثت عن مرادف لصباح فخري فلم تفلح في صنع نسختها منه. فاكتفى هؤلاء بالسير على نهجه وترداد أغانيه، محتفظين له بمكانته العصية على التكرار.
من طرفه حاول صباح فخري فعل ما لجأ إليه مطربو زمنه، مثل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وآخرين، فشارك في أفلام سينمائية مثل “الوادي الكبير” مع وردة الجزائرية، و”الصعاليك” مع دريد لحام ومريم فخر الدين. وظهر في أعمال تلفزيونية دينية وأخرى توثيقية مثل “أسماء الله الحسنى” مع عبدالرحمن آل رشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، و”نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري. إلا أنه وجد أنه لم يكن بحاجة إلى دعائم للمرتبة التي كان يحفرها لنفسه لدى الجمهور. فيكفيه الطرب الحلبي الذي بات سفيرا له في أنحاء الأرض.
كان صباحي فخري يقول “أصبحت جماهيرنا واسعة بعد الفضائيات. ولذلك صار يمكن أن نرى أطفالاً من بين جمهورنا على الشاشة. وكذلك يمكن أن نرى شبابا بين الجمهور. الجيل الآن جيل مختلف ويستطيع التمييز”، ويضيف في رأي قد يجده البعض مختلفا عن تلك الحسرات على الجيل الجديد من الجماهير “الجمهور اليوم لديه استطلاع وهو ذكي جداً ولا يغرنّك ما ترى من مظاهر مبدئية. أما الزبد فيذهب جفاء”.
ثقته تلك بالجمهور وبفنّه معا جعلته يؤمن بأن الموسيقى موجودة في الكون قبل الإنسان، في حفيف الشجر وخرير المياه. والإنسان يمتلك الصوت وقلبه أكبر ضابط إيقاع. كان يقول إن “النبات حين يستمع إلى الموسيقى يعطي إنتاجاً أكثر. والطفل من صغره يسمع الهدي من الأم. معنى ذلك أن الموسيقى حقيقة كونية”.
هي إذن معادلة أبعد من الفن. تصل ذلك المغني الذي عبر من عصرنا عبوراً، ترك ظلاله الكبيرة كما تصل الحقيقة الروحية. وحين يقول إن الجيل الجديد من الفنانين جاءته الحياة على طبق من ذهب، بالقياس إلى معاناة جيل صباح فخري، يردف ذلك قائلا، إن ما ينقص هذا الجيل فقط التثقّف والمعرفة. وهو الذي بقي يردّد في كافة حواراته الصحافية أنه لا يزال يتعلم ويدرس لأنه يجب أن يواكب العصر كما كان يقول.
درس صباح فخري كان درسا طويلا للثقافة العربية، لمستهلكيها ومنتجيها ودارسيها. وسيبقى مجلّدا ضخما من القيم الفنية أراد له عرّابه البارودي الذي غنى له تلميذه من شعره “يمرّ عجباً ولا يؤدي السلام” أن يكون علامة دالة على الثقافة العربية ورسالة منها تعبر للتكوينات والأجيال.