الصفحة 3 من 4
الوثيقة الحية
كان صباح فخري أكثر من مجرد مطرب، بل إن الناس تغاضت عن آرائه السياسية، واعتبرت فنه أكبر من مواقفه. فكان يمثّل في كل مرّة يقف فيها على المسرح سلسلة من العلامات البارزة في وعي الناس، سواء من خلال الشعراء الذين غنى لهم قصائدهم أو من خلال الملحّنين الذين ترنّم بموسيقاهم. فمن من مطربي هذا العصر غنى حول العالم قصائد لأبي فراس الحمداني أو للمتنبي، وكذلك لابن الفارض وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب، بالإضافة إلى الكلمات الجديدة التي وضعها شعراء معاصرون؟ حتى أن الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب حين استمع إلى أداء صباح فخري قال له “مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه”.
يتباهى محبو صباح فخري بأنه سجّل رقما قياسيا ودخل موسوعة غينيس حين غنى في كاراكاس بفنزويلا لعشر ساعات متواصلة، ومن يعرف حفلاته يدرك أنها لم تكن سابقة، فصباح فخري لم يكن يقف أمام الجهور ليغني فقط، إنما كان يطرب نفسه بنفسه، ويذهب في السلطنة بعيداً فتشعر أنه دخل في وجد صوفي لا نهاية له، فينسى الوقت والساعات ويستغرق في تحليقه الطربي حتى تتعب الفرقة الموسيقية وهو لا يتعب.
حضوره كان يكرّر على الناس السؤال الذاتي عن صدقية الغناء وأهميته في الحياة العامة، وقد مكنّه ذلك من الخروج عن إطار حلب ذاتها، حين غنى للرائد المسرحي أبي خليل القباني “يا طيرة طيري يا حمامة” التي ألفها الأخير ولحنها لتصبح أنشودة دمشق، بل إن صباح فخري اتسع به الحال ليصل إلى اللهجات العربية كافة، فغنى لسيد درويش بالعامية المصرية وبالفصحى كذلك كما في “يا شادي الألحان”. على أن العامية المصرية تحتل مكانتها في صميم الطرب الحلبي العتيق، ومن ذلك كلمات كتبها كبار الشيوخ وغناها صباح فخري أيضاً مثل “ابعتلي جواب” التي غناها شيخ كار الطرب في حلب الراحل صبري مدلل.