العارف بالتفاصيل الداخلية للمشهد السياسي التونسي، يدرك أن هناك حالة جرد حساب بين النهضة والكتلة الديمقراطية، ستنعكس على المشهد السياسي ككل وعلى عمل الحكومة أيضا.
أقلّ ما يُنعت به مشهد مشاورات تشكيل الحكومة التونسية، هو أنه مشهد بلا أفق حقيقي لبناء حكومة متوافقة ذات حزام سياسي واسع، قادرة على إدارة الشأن العام ومُجابهة القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحارقة وتأثيث المسائل الدستورية.
أسوأ ما فعلته المشاورات في المشهد السياسي الحالي، أنها قدمت قضايا التشكيل ونيل الثقة البرلمانية على مسائل أخرى لا تقل عنها أهمية، وحصرت النقاش والاهتمام في مسألة النصف زائد واحد، الأمر الذي نقل النقاش الأصلي من فعل التوافق حول منظومة الحُكم في البرلمان وفي رئاسة الحكومة وفي الوزارات، إلى فعل التقاطع المرحلي بين الأحزاب للمصادقة على حكومة إلياس الفخفاخ، ما أزاح عن المشهد بصفة شبه كلية مسائل المحكمة الدستورية وهيئة مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة، والهيئة الجديدة للاتصال السمعي البصري وقانون الاتصال الجديد.
وكُلما ابتعد رئيس الحكومة المكلف عن تصور مشترك للحكم يبدأ من التوافق العريض في البرلمان على تمش سياسي عام، واعتنق في المُقابل الرؤية الضيقة القائمة على تمرير الحكومة بأقلّيّة تشريعية تتجاوز النصف بعدد ضئيل، كلما ارتهن هو ومن ورائه البلاد إلى انتهازية الأحزاب وشُروط الكتل البرلمانية، وصار دوره مكتفيا بتلفيق التحالفات وإدارة التوافقات المغشوشة وتلطيف الحالة السياسية الهجينة.
لا تريد النهضة أن تترك قلب تونس في المُعارضة البرلمانية، فيتقارب مع الحزب الدستوري الحر قلبا وقالبا، مع إمكانية ولادة نسخة ثانية من نداء تونس أشد قوة وأكثر راديكالية وأقل توازنا
لن نُعيد ما ذكرناه سابقا، بأن إلياس الفخفاخ ارتكب خطأ منهجيا فادحا عندما شكّل المُعارضة قبل الحكومة، ولن نُكرر ما سلف وإن أشرنا إليه بأنّ الفخفاخ لم يتعظ من الأخطاء التي اقترفها سلفه الحبيب الجملي، ولكن الواضح أن الفخفاخ وحكومته يقفان على رمال سياسية حارقة ومتحركة، وأنّ حُظوظ حكومته في نيل الثقة قائمة بشكل ضعيف، وبعبارة أدقّ أنها إن مرت فلن تستمرّ طويلا.
المفارقة في المشهد السياسي الحالي، أن الاختلاف صار مركبا ومتشعبا وأن خيوط التوافق تغيب عن المشهد باطراد، فالتباين تجاوز أحزاب “الخط الثوري” ليصبح بين حركة النهضة وبين الفخفاخ، وبين الأخيرة ويوسف الشاهد، وبينها وبين الرئيس قيس سعيّد.
الرسائل التي أبرقها سعيد سواء خلال اجتماعه مع الأمين العام للمنظمة النقابية ومع رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، أو التي أعاد استحضارها خلال لقائه مساء الاثنين براشد الغنوشي، تؤكّد أنّ الرجل لن يتعامل إلا مع حلّيْن اثنين فإما حكومة جديدة وإما الذهاب إلى انتخابات مبكرة، ويرفض بذلك الحلول التلفيقية التي يروجها البعض عن سحب الثقة من رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد.
وأيا كان السيناريو المفترض فإن المشهد القائم لا يُمكن البناء عليه طويلا. لا يُمكن البناء على تحالف بين النهضة والكتلة الديمقراطية بعد المكاسرات الإعلامية والسياسية غير المسبوقة، ولا يُمكن البناء أيضا على إدخال قلب تونس في حُكومة الفخفاخ بعد استكمال المُشاورات والكشف عن الأسماء المقترحة في الإعلام، ولا يُمكن البناء أيضا، وهو الأهم، على طبقة سياسية تحكم بمقتضى إكراهات الواقع وكراهية حل البرلمان وإعلان انتخابات مبكرة.
العارف بالتفاصيل الداخلية للمشهد السياسي التونسي، يدرك أن هناك حالة جرد حساب بين النهضة والكتلة الديمقراطية، ستنعكس على المشهد السياسي ككل وعلى عمل الحكومة أيضا، وهُناك حساسيات نهضوية من الرئيس قيس سعيد يمكن أيضا أن تؤثر سلبا على عمل الدبلوماسية التونسية، وهناك تململ واضح من الفخفاخ الذي لم يستجب لحسابات حركة النهضة في دمج قلب تونس في فريقه الحكومي.
تدرك حركة النهضة أن الحالة السياسية بالإمكان تلخصيها في مقولة “لا حكومة من النهضة ولا حكومة دون النهضة”، وإن كان فرقاؤها قد نجحوا في فرض النصف الأول من العبارة وأفشلوا حكومة الجملي، فإنها ستعمل جاهدة على التوظيف المشط للنصف الثاني، طالما أنه لا وجود لرديف سياسي، في قوة نداء تونس، قادر على وضعها في الزاوية وحشرها في المربع الضيّق وفرض تحالفات وتوافقات صارمة عليها.
وفي النصف الثاني من المقولة لا يزال المشهد السياسي التونسي مُراوحا مكانه، تطرح النهضة شرطها الأساسي بكل صرامة، وهو تشريك قلب تونس في المشاورات وفي الحقائب، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
أسوأ ما فعلته المشاورات في المشهد السياسي الحالي، أنها قدمت قضايا التشكيل ونيل الثقة البرلمانية على مسائل أخرى لا تقل عنها أهمية، وحصرت النقاش والاهتمام في مسألة النصف زائد واحد
لا تريد النهضة أن تترك قلب تونس في المُعارضة البرلمانية، فيتقارب مع الحزب الدستوري الحر قلبا وقالبا، مع إمكانية ولادة نسخة ثانية من نداء تونس أشد قوة وأكثر راديكالية وأقل توازنا في غياب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فالمُعارضة تريدها النهضة معارضة برلمانية للدستوري الحر وهُنا بالضبط يتصدى ائتلاف الكرامة لهذا الأمر.
في المقابل تحبذ حركة النهضة تشريكا لقلب تونس في الحكم، لا فقط لأن تكلفة الاقتراب من رفاق الخط الثوري مكلفة سياسيا وشعبيا عليها، بل ولأنّها تفكّر جديا في “الخطة ب” المتمثلة في سحب الثقة من حكومة الفخفاخ وتشكيل حكومة جديدة بغالبية النهضة وقلب تونس وأطراف أخرى.
في المحصلة، قد تمرّ حكومة الفخفاخ بغالبية بسيطة، وبعد وساطة من اتحاد الشغل واتحاد الأعراف، ولكن إن مرت فلا وجود لضمانات حقيقية لاستمرارها، ذلك أنّ السكاكين الطويلة لإسقاطها بدأ شحذها.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي