قوى السلطة، وعلى رأسها حزب الله، في مأزق، وهي تتقاذف مسؤولية ما آلت إليه الأمور في محاولة من كل منها للاستثمار في أزمة النظام.
يشهد لبنان اليوم معركة شد حبال حقيقية بين ثورة شعب عارمة وبين قوى سلطة تسعى لاستعادة زمام الأمور وإجهاض أهداف هذه الثورة، ألا وهي معركة تشكيل حكومة جديدة بعد سقوط حكومة سعد الحريري التي تمتع فيها حزب الله وحلفاؤه بالأكثرية والسطوة، في الشارع.
يفرض الدستور اللبناني على رئيس الجمهورية المبادرة إلى تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس جديد للحكومة فور قبول استقالة الحكومة، والذي بدوره يجري استشارات نيابية غير ملزمة يقرر في نهايتها شكل ومضمون الحكومة ويسمي وزراءها.
لكن عمد الرئيس ميشال عون إلى مماطلة مديدة قاربت الأسبوع ولم تنته بعد، أخفت وراءها مشاورات بين قوى النظام. وجرت هذه المشاورات في الخفاء ومازالت تجري بين بعبدا (رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر) وحارة حريك (حزب الله) وعين التينة (رئيس مجلس النواب وحركة أمل نبيه بري).
وبين هؤلاء وبين رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، مشاورات ومفاوضات ترمي إلى وضع الشعب اللبناني أمام حكومة أمر واقع، برئاسة سعد الحريري وتتمثل فيها القوى السياسية ومطعمة ببعض التكنوقراط لإرضاء الشارع. وستكون حكومة محاصصة كالمعتاد وثلة من الاختصاصيين التابعين، تؤمن استمرار سيطرة القوى السياسية وتعيد توزيع الحصص بينها وتحمي رموزها من المحاسبة القانونية والقضائية على ما أوصلت البلاد إليه من أزمات خطيرة، بل قاتلة.
بالتوازي مع المماطلة والتسويف، تراوح سلوك السلطة وقواها مع الشارع المنتفض بين القمع وبين ليونة مصطنعة ومحاولات الاستيعاب. وتقاسم كل من حزب الله وحركة أمل من جهة والجيش ومخابراته من جهة أخرى الأدوار في ترهيب الشارع، كل في مناطق سيطرته. فكانت محاولات الجيش في العبدة شمالا وفي البداوي قبل ذلك لتخويف المتظاهرين باستخدام القوة قد ارتدت تصعيدا كبيرا في الشارع حافظ بشدة على سلميته وإعلان تأييد الجيش له.
أما ممارسات حزب الله وحركة أمل في الجنوب وبيروت فقد ارتدت عليهما بقوة وأسهمت بشكل كبير في تعرية هاتين الجهتين شعبيا حتى باتتا حذرتين في استخدامهم بعد الفضائح التي انتشرت بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الفضائح التي ضربت في الصميم شعبية حزب الله وحركة أمل.
من هنا رأينا الخطاب الاستيعابي لزعيم حزب الله الذي حاول فيه الظهور بمظهر المتجاوب مع مطالب الشارع والتنصل من مزاعمه السابقة حول تمويل الحراك وتشويهه وتخوينه، ومن سلوك أنصاره الذين اجتاحوا ساحات بيروت ومارسوا ولا يزالون يمارسون التهديد وإرهاب الشارع في مناطق سيطرتهم في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. كل ذلك في محاولة منه للتغطية على محاولات تمرير إعادة إنتاج السلطة من خلال حكومة تبقي على سيطرته وترضي مصالحه ومصالح نظام الملالي في طهران. ولا شك أن ما يجري في العراق من انتفاضة عارمة تتصدى لسيطرة القوى الملتحقة بطهران كان له دور أساسي في تخفيض نبرة حسن نصرالله الذي لا يريد فقدان كل أوراقه وتحويل الجنوب اللبناني إلى توأم لجنوبي العراق في صراع حياة أو موت بينه وبين الشارع الشيعي.
أما شارع الثورة الذي أعلن منذ البدء فقدانه التام للثقة بكافة القوى السياسية المسيطرة (كلن يعني كلن)، فقد حدّد هدفه التالي بعد إسقاطه حكومة الحريري. وأعلن بوضوح أنه يريد حكومة إنقاذ مستقلة عن القوى السياسية استقلالا كاملا برئيسها وأعضائها، حكومة مصغرة من ذوي كفاءة وجرأة، حكومة مؤقتة انتقالية بصلاحيات استثنائية تشريعية قادرة على استصدار مراسيم تشريعية، أي قوانين من دون الرجوع إلى مجلس نواب قوى السلطة، مراسيم تفرض استقلالية السلطة القضائية وتطهيرها، وتخرج البلاد من أزمتها المالية والاقتصادية باستخدام الموارد المحلية وبإجراءات قانونية تطال الثروات التي جمعها السياسيون وأتباعهم من المال العام المنهوب، إضافة إلى تشريع قانون انتخابي عصري يتضمن تقصير ولاية المجلس الحالي والإعداد لانتخابات مبكرة تفضي إلى إنتاج نظام سياسي ديمقراطي حقيقي، نظام القانون والمؤسسات، يمثل مصالح الشعب والوطن.
تجلت إرادة الشعب اللبناني في انتفاضته المستمرة وإصراره على وضع مطلبه في تشكيل هذه الحكومة موضع التنفيذ الفوري، في رده في ساحات التظاهر والاعتصام وفي فرضه إضرابا عاما وفي شل البلاد من خلال قطع الطرقات في مختلف المناطق ردا على تعنت قوى السلطة ومماطلة رئيس البلاد وعلى ما يتم تسريبه من محاولات لإعادة إنتاج حكومة تمثل مصالح القوى التي ثار اللبنانيون لإسقاطها.
قوى السلطة، وعلى رأسها حزب الله، في مأزق، وهي تتقاذف مسؤولية ما آلت إليه الأمور في محاولة من كل منها للاستثمار في أزمة النظام وبالتالي في الحفاظ على مواقع من هنا أو في إضعاف مواقع الآخرين، بينما ينمو ربيع الشعب في الساحات ويزدهر تلاحمها وتتعزز وحدتها على الأرض. وهذا ما يدفع الى القول، إنها ستنتصر ولو بعد حين.
عديد نصار
كاتب لبناني