اختر لغتك

عن السيادة التي لا تراقب بين خفة التصريح وثقل الدولة

عن السيادة التي لا تراقب بين خفة التصريح وثقل الدولة

لا يمكن الحديث عن الدولة بوصفها كيانا مكتمل المعنى ما لم تكن قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها وأن تستمد قراراتها من داخلها لا من إشارات تصدر من خارج الجغرافيا مهما تزينت لغة الخارج باللياقة، فليس كل خطاب موجه باسم المبادئ يسمو على النوايا إنما كثيرا ما تنزلق الشعارات العابرة للقارات إلى أدوات ناعمة تخضع الدولة لإرادة مموّهة لا يعلن عنها في العلن ولكنها تتغلغل في بنية القرار الوطني.

حين تتجاوز التعليقات الأجنبية الطابع الوصفي وتدخل في تمليح المسارات القضائية الداخلية لدولة ذات سيادة، فإننا لا نكون أمام رأي أو توصية ولكن أمام إعادة تشكيل لمسافة السيطرة لا بالقوة المباشرة إنما بالشرعية المستعارة من لغة الحقوق، وهنا تطرح الأسئلة الكبرى فمن يملك الحق في مراقبة من؟ ومن يحدد معايير المحاكمة العادلة؟ وهل يمكن للقلق المزعوم أن يبرر المساس بجوهر التعاقد الوطني بين الدولة وشعبها؟

الجواب لا يكون في الشكل ولكن في المنهاج الذي تقاس به هذه الأمور، إذ أن ما يسمى بالمجتمع الدولي في الكثير من تمثلاته لا يعمل كجهاز إنصاف محايد بل كسلطة رمزية تصدر الأحكام لا من باب حماية الشعوب ولكن من موقع تراتبي يخفي تحت قناع النوايا الطيبة رهاب السيادة التي تخرج عن طوعه.

وما يفاقم الأزمة ليس فقط مضمون هذه التصريحات إنما توقيتها ومغزاها الرمزي، فهي لا تأتي كرد فعل بريء يل توظف في لحظة مفصلية داخلية لتوجيه المسارات من الخارج عبر ما يشبه العصا الأخلاقية المغلفة بلغة الدبلوماسية، فتستدعى مفردات مثل "الحقوق" و"المعايير" و"التشريعات الدولية" بطريقة تجعل من القرار الوطني مشروطا برضا عواصم لم تنتخب من شعوب الداخل.

ففي هذه اللعبة تغدو العدالة أداة تأديب وليست مبدأ كونيا وتستخدم المؤسسات الأممية كرافعة ضغط لا كضامن توافقي ويعاد رسم ملامح السيادة الوطنية على إيقاع ناعم لكنه صارم ومن يخرج عن السياق بذكر بموازين القوى لا بموازين المبادئ.

وهنا يبرز المعنى الأعمق للسيادة فهي ليست مجرد احتكار للسلاح أو التشريع ولكنها قدرة الدولة على أن تكون مصدر قرارها ومعيارها الذاتي في تقييم وقائعها، وهذا لا يعني الانفصال عن العالم بل يعني أن تكون العلاقة بالعالم قائمة على احترام التكافؤ لا التبعية على قاعدة تبادل الندية لا مراقبة الصلاحية.

ومن هذا المنظور فإن محاولات بعض الجهات الدولية إصدار أحكام مبطنة أو تقديم "ملاحظات" حول سير العدالة في الداخل، إنما هي في جوهرها رفض لحق الدولة في أن تمارس اختصاصها القضائي بلا استئذان وهو أمر خطير من حيث المبدأ لأنه يفرغ الدولة من محتواها السيادي ويحولها إلى وحدة تنفيذية في شبكة أممية غير متكافئة تحدد لها المسموح والممنوع وفق مصالح ليست بالضرورة نبيلة.

ثمة أمر جلل في أن تعامل دولة ذات سيادة وكأنها خاضعة للمراجعة الدولية في كل تفصيل وكأن القرار الداخلي فيها يجب أن يحظى بموافقة خارجية غير معلنة، فهذا لا ينسف فقط جوهر السيادة لكنه يحول مفهوم "الدولة" إلى قشرة شكلية فارغة من مضمونها لا تملك أن تحاسب ولا أن تقرر إلا إذا صادقت قوى معينة على شرعية فعلها.

هذا الواقع يفضح منطقا شديد الخطورة، فحين تستدعى "حقوق الإنسان" كلما تعلق الأمر بدولة اختارت أن تسلك مسارا مستقلا وتتجاهل حين تنتهك في مواضع أخرى من العالم تحت سمع ومرأى نفس القوى، فإننا لا نكون أمام معيار إنساني لكن أمام كيل بمكيالين لا ينتصر للعدالة بل يكرس الوصاية.

كما وإن هذا النوع من التدخل  حتى وإن تغلف بحسن النية  هو في جوهره إخلال بمبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي ألا وهو احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهذا المبدأ الذي وضع لضمان توازن العلاقات الدولية لا يمكن اختزاله أو تمييعه تحت ذرائع ظرفية مهما بدت لامعة.

والدولة التي لا تجابه هذا النوع من التدخل تراكم القبول بالتجريد التدريجي لسلطتها وتمهد لطريقة جديدة من الهيمنة لا تتوسل الاحتلال لكن الشرعية الرمزية، وقد أثبت التاريخ أن انهيار الدول لا يكون دائما بالقصف بل كثيرا ما يبدأ بالتشكيك في مؤسساتها ثم تحييد سلطاتها ثم إخضاعها تحت عنوان الإصلاح والمساءلة الدولية.

لذا فإن أرقى أشكال الدفاع عن الإنسان تبدأ من احترام إرادته الجمعية والشعوب التي تصوغ قوانينها وتحتكم إلى قضاتها وتحاسب حكامها من داخل منظومتها لا تحتاج إلى من يذكرها بأبجديات العدالة، إنما تحتاج إلى من يعترف لها بحق الكرامة السياسية وأن تختار، أن تخطئ، أن تصحح ولكن من داخلها لا بيد مرسلة من خارج الحدود.

آخر الأخبار

الذراري الحُمر على خط النار في مالمو: السينما التونسية تسرق الأضواء في مهرجان الشمال!

الذراري الحُمر على خط النار في مالمو: السينما التونسية تسرق الأضواء في مهرجان الشمال!

عن السيادة التي لا تراقب بين خفة التصريح وثقل الدولة

عن السيادة التي لا تراقب بين خفة التصريح وثقل الدولة

وداعًا أنور الشعافي… رحيل أيقونة مسرحية كسرت النمط وأشعلت التجريب

وداعًا أنور الشعافي… رحيل أيقونة مسرحية كسرت النمط وأشعلت التجريب

كارثة إنسانية على طرق الهجرة: 72 ألف مفقود وقتيل خلال عقد… والأمم المتحدة تطلق صرخة إنذار

كارثة إنسانية على طرق الهجرة: 72 ألف مفقود وقتيل خلال عقد… والأمم المتحدة تطلق صرخة إنذار

محصول الحبوب يفاجئ التونسيين: إنتاج يغطي 60% من الحاجيات الوطنية… لكن التحدي لوجستي!

محصول الحبوب يفاجئ التونسيين: إنتاج يغطي 60% من الحاجيات الوطنية… لكن التحدي لوجستي!

Please publish modules in offcanvas position.