اختر لغتك

حين تختار الطريق من يختارك

حين تختار الطريق من يختارك

قد تبدو تفاصيل الحياة اليومية بسيطة وعادية لكنها تخفي تحت قشرتها الرقيقة طبقات متراكمة من الخلل والانتهاك الصامت، ففي شوارع المدينة المتعبة حيث يركض الناس خلف قوتهم واحتياجاتهم يفترض أن تكون وسائل النقل العامة وعلى رأسها سيارات الأجرة ملاذا مؤقتا للراحة، جسرا صغيرا نحو وجهة ما، لكن ماذا لو تحولت هذه الوسيلة  بيد البعض إلى وسيلة انتقاء فج وممارسة غير معلنة للتمييز والإذلال؟

من خلف النوافذ المغبرة لسيارات التاكسي تروى يوميا حكايات صغيرة عن الرفض، عن التمييز، عن استغلال الضعف والحاجة، ليست هذه القصص حكايات فردية معزولة لكنها نمطا يتكرر، يتكرس، ويكاد يصبح أمرا عاديا وسط صمت المدينة البارد.

في هذا التحقيق نغوص في ممارسات غير قانونية وغير أخلاقية يمارسها بعض سائقي سيارات الأجرة، ممارسات تنتهك ليس فقط قوانين النقل بل كرامة الإنسان ذاته وتضعنا أمام سؤال بسيط وعميق في آن كيف تحولت الخدمة العامة إلى حلبة فرز طبقي صامتة؟

 لا يحتاج المرء إلى كثير من التأمل ليكتشف أن التاكسي الذي خلق ليكون وسيلة للعبور الآمن بين نقطتين قد تحول في بعض وجوهه إلى ساحة أخرى للفوضى المنتقاة، حيث السائق ليس مجرد ناقل إنما قاض يصدر أحكامه على من يركب ومن يترك على من تفتح له الأبواب ومن تغلق في وجهه بغير اعتذار.

تبدأ الظاهرة بملامح لا تخطئها العين حيث يتجمع عشرات السائقين عند نقاط محددة لا تحكمهم قاعدة سوى قانون المصلحة، يركنون سياراتهم صفا لا ينتظرون دورا كما يفترض لكنهم يختارون زبائنهم كما يختار تاجر بضاعته، نظرة سريعة إلى القادم تقييم صامت لمظهره، لتعبه، لحقيبته، ثم تبدأ لعبة الاصطفاء القاسية إن بدا غنيا، أو حمل وعدا بمسافة طويلة تدر مالا وفيرا تحرك أحدهم متملقا، متباهيا بخدمته، وإن بدا عاديا أو إن كانت وجهته قريبة أو حمل من التعب ما يوحي بفقر أو قلة حيلة أداروا وجوههم عنه كأنما لم يروه أو أشهروا في وجهه عبارة الرفض المختصرة "لا نذهب إلى هناك".

ولا تنتهي القسوة عند حدود الاختيار الانتقائي إنما تتعمق أكثر حين يصبح الركاب أنفسهم مادة للفرز الاجتماعي، شابة وحيدة قد ترفض لأسباب تتعلق بالمزاج أو بالتحاملات الضمنية، رجل مسن يترك ينتظر بلا أمل، عائلة بأطفال ترفض بذريعة كاذبة عن ضيق المساحة، زفي تلك اللحظات يصبح الرصيف مسرحا صامتا للخذلان حيث يفهم الراكب بلا حاجة لكلمات كثيرة أنه مرفوض لا لذنب ارتكبه لكن لأنه لا يلائم معايير انتهازية لحظية يفرضها سائق يعيش خارج أي التزام أخلاقي.

ورغم أن القانون في نصوصه الباردة يفرض على سائقي التاكسي قبول أي زبون ضمن مسار معقول، فإن الواقع يروي قصة أخرى قانون مطاط لا يطبق ولا يخافه أحد تستبدل مواده بمزاج لحظي أو بأوهام مكاسب إضافية، وكأن السائق متكئا على شعور بالحصانة غير المعلنة يرى في الراكب فرصة أو عبئا لا علاقة إنسانية محترمة بينهما.

وما يزيد المشهد إيلامة أن التاكسي لم يعد مجرد وسيلة نقل في أعين كثيرين لكنه ساحة معركة خفية هي معركة لإقناع السائق أولا بالموافقة على الوجهة ثم معركة ثانية لقبولك كشخص لا مجرد نقود تمشي على قدمين وتصبح العلاقة بين الراكب والسائق علاقة قسرية يفرضها العرض والطلب بطريقة لا يعرف فيها الضمير إلى أين يذهب ولا الكرامة أين تلجأ.

وفي ظل هذا الانفلات تبرز مفارقات صادمة، سيارات أجرة تتكدس تحت لافتات "تاكسي حر" فيما الحرية الوحيدة التي تمارسها هي حرية رفض الراكب أو امتهان كرامته أو التفنن في اختلاق الأعذار للتهرب من رحلة لا تدر ربحا سريعا، زبائن يمرون أمام أعين السائقين في انسحاب خجول يشبه انسحاب من خسر معركة لم يتح له أصلا خوضها بشرف.

وحتى عندما يحاول بعض الراكبين بحسن نية الإصرار على حقهم في النقل يجابهون بعبارات مستهترة تحمل تهديدا ضمنيا "خذ سيارة أخرى"، "نحن لا نذهب إلى هناك"، "انتظر غيري"، تلك العبارات التي تفرغ مهنة النقل من محتواها وتحولها إلى صفقة مؤقتة يتحكم فيها الأقوى مزاجا لا الأحق حاجة.

ولأن الخلل لا يردم من تلقاء نفسه فقد تفاقمت الظاهرة حتى بات الرفض العلني أمرا شائعا وتلاشى المفهوم البسيط أن التاكسي موجود لخدمة الناس، جميع الناس، وليس لاصطياد من يدفع أكثر أو يذهب أبعد وبات الزبون في مفارقة مريرة مضطرا أحيانا لتقديم نفسه ومظهره ووجهته كعرض إغراء كي يقبل به سائق كان ينبغي أن يؤدي خدمته كالتزام لا كمزية انتقائية.

وفي الزاوية الأخرى من المشهد يقف الراكب متشحا بصبر ثقيل يحاول أن يتظاهر بعدم الاكتراث وهو يرفض مرة ويهش مرة ويساوم على كرامته مرات أخرى، فلا شيء يشي أكثر بضعف الإنسان من لحظة يتوسل فيها خدمة كان ينبغي أن تكون حقا بسيطا ضمن شبكة الحياة اليومية لكن التاكسيات المنفلتة حولت الحق إلى مكرمة والخدمة إلى اختبار للقوة النفسية والتحمل.

يتقدم بخطوات ثقيلة نحو السيارات المصطفة نظرة واحدة تكفي ليقرأ ككتاب مفتوح هل يحمل مظهره ما يغري؟ هل توحي وجهته بمردود مالي يستحق عناء الطريق؟ وإن لم يكن كذلك يرد إلى الانتظار بلا جلبة كأن وجوده نفسه فائض عن الحاجة.

وبين الانتظار والرفض تتناقص قواه النفسية؛ فيتعلم أن يخفض نظره حين يقترب من السائقين، أن يتحسس جيبه قبل أن يطلب المشوار، أن يتحمل إيماءات الازدراء وكأنها أمر طبيعي؛ يكبح غضبه، يخنق كلماته، يخاطب السائق برجاء مكتوم لا يليق بإنسان إنما بمتسول يطلب معروفا.

وحين يوافق أحدهم أخيرا على اصطحابه لا يفرح بقدر ما يشعر بالنجاة كمن عبر حقلا من الألغام، لكنه يحمل في داخله جرحا صغيرا غير مرئي، جرح الرفض، الإهانة، والاضطرار إلى تقبل أن حقه في التنقل أصبح رهينة أهواء آخرين ولأن المجتمع كله يتآمر بالصمت يبتلع الراكب الغصة ويستأنف حياته كأن شيئا لم يكن.

يتراكم هذا الشعور يوما بعد يوم حتى تصبح فكرة استقلال تاكسي عند بعضهم مرادفة للقلق، للتحسب، للاحتماء النفسي المسبق من عنف متوقع، فيصبح الخوف من الإذلال جزءا لا واعيا من التجربة وتجعل هذه التراكمات في آخر المطاف من الراكب مواطنا ناقص الحقوق، مدجنا على القبول بالمهانة الصغيرة، مخدرا عن المطالبة بالأبسط.

وفي ظل هذا الانكسار الصامت تنمو مسافة خطرة بين المواطن وحقه الطبيعي في الاحترام، مسافة لا تقاس بالكيلومترات لكن بالخذلان المتكرر وبالتواطؤ الذي يجعل من أبسط مظاهر الحياة اليومية ساحة لتكريس الظلم الصغير.

لهذه الأسباب مجتمعة يصبح من الواجب الملح أن نرفع الصوت فوق صمت الشوارع المزدحمة بالخيبات، إن واقع سيارات الأجرة بما يحمله من غش علني ورفض انتقائي وإهانات مبطنة لم يعد مجرد قصور في الخدمات لكنه صار خرقا موصوفا لأبسط مبادئ التعاقد الاجتماعي ومساسا مفضوحا بالكرامة التي لا يحق لأحد أن يساوم عليها أو أن يتصرف بها وفق مزاجه.

إن التاكسي ليس ملكية خاصة ولا أداة للابتزاز لكنه خدمة منظمة بقوة القانون، خدمة يجب أن تخضع للرقابة والمساءلة والعقوبة حين تنحرف عن غايتها الأصلية.

وعليه، فإننا نوجه هذا النداء إلى السلطات المختصة، إلى الجهات الرقابية، إلى الوزارات المعنية، إلى الرأي العام ذاته لابد من فرض احترام قواعد النقل العام، لابد من حمل سائقي التاكسي على الالتزام بشرف المهنة، لابد من إيقاف هذه الفوضى التي تذل المواطنين تحت وطأة الحاجة اليومية.

إن كرامة الناس ليست بندا اختياريا في قائمة الخدمات وكل صمت عن هذه التجاوزات هو تواطؤ صريح مع إهانة الإنسان في تفاصيل حياته البسيطة.

ولأن المجتمعات لا تنهض بالشعارات ولا بالخطب الفارغة إنما بالأفعال الواضحة نطالب بتفعيل آليات الشكاوى الجدية وتغريم السائقين المخالفين وسحب الرخص ممن يستهين بمبادئ احترام الراكب، وإن لم يحدث ذلك ستبقى سيارات الأجرة التي كان يفترض أن تجسد حرية الحركة واحدة من أكثر مشاهد الإذلال الصامت في حياة الناس اليومية.

آخر الأخبار

1 ماي... موعد العطاء والنضال: اتحاد عمال تونس يحتفي بعيد الشغل والذكرى الرابعة عشرة لتأسيسه

غرة ماي... موعد العطاء والنضال: اتحاد عمال تونس يحتفي بعيد الشغل والذكرى الرابعة عشرة لتأسيسه

حين تختار الطريق من يختارك

حين تختار الطريق من يختارك

في مواجهة الغلاء: اتحاد عمال تونس يتمسك بزيادة تحفظ كرامة العمال

في مواجهة الغلاء: اتحاد عمال تونس يتمسك بزيادة تحفظ كرامة العمال

نسور قرطاج يعودون إلى قطر للمنافسة على لقب كأس العرب 2025

نسور قرطاج يعودون إلى قطر للمنافسة على لقب كأس العرب 2025

الأمم المتحدة تحتفل بثمانين عامًا من العطاء في معرض تونس الدولي للكتاب

الأمم المتحدة تحتفل بثمانين عامًا من العطاء في معرض تونس الدولي للكتاب

Please publish modules in offcanvas position.