اختر لغتك

أصابع لا تنطبق… ومسرح لا ينغلق

أصابع لا تنطبق… ومسرح لا ينغلق

أصابع لا تنطبق… ومسرح لا ينغلق

حين يمسك مباركي الذهبي بالقلم لا تكتب أصابعه  المقيدة حركيا  نصا فنيا فحسب لكنها توفع وثيقة إنسانية باسم كل جسد مهمش وباسم كل صوت خافت داخل مسرح الحياة، إن تجربته ليست ترفا فنيا يضاف إلى أرشيف السير الذاتية لكنه فعل مقاومة ناعم يمارس دوره على الركح كما في الكواليس ليعيد تعريف الفعل المسرحي كحق قانوني، كأداة رمزية وكجمال يولد من محدودية الجسد لا رغما عنها.

مباركي الذهبي الذي يحمل في أطرافه إصابة تطال الأصابع دون أن تطال الإرادة يقف كشاهد على أن الخشبة لا تشترط فيها الكفاءة الجسدية المطلقة لكن الصدق في التعبير والقدرة على نقل الوجود الإنساني في هشاشته وقوته، يعتلي المسرح لا ليخبرنا بحكايته لكم ليدمجها في الحكاية الكبرى حكاية مجتمع لا يزال يتردد في الاعتراف بقدرة المختلف على التشكيل لا التلقي فقط.

في عروض مثل رحلة العمر، المبذر، مملكة العشق، وغيرها، لم يكن مباركي مجرد مؤدي دور لكنه كان مقترحا دراميا يمشي، يتكلم ويعيد توزيع السلطة على الخشبة، فالأصابع التي لا تنثني كما يشتهي المخرج كانت تكتب سينوغرافيا جديدة فيها الإعاقة ليست عائقا لكن منحى رمزيا يفتح للمشاهد فضاءات من التأمل لم يكن ليبلغها بجسد مكتمل الحركة، لأن الكمال في المسرح لا يقاس بالفيزياء إنما بمدى توتر النص داخل الجسد ومدى صدقه حين يلفظ من بين العظام لا من اللسان فقط.

مباركي لا يطالب بتوظيف ذوي الإعاقة على الخشبة لكن بتوظيف وعي المجتمع عبرهم، ويدرك أن مسرحا لا يعترف بتعدد الجسد هو مسرح ناقص المواطنة، قاصر عن خلق مشهدية تمثل الشعب كما هو بطيفه، بشقوقه، بعرجاته، وندوبه؛ ذلك، فإن كل ظهور له على الخشبة هو بمثابة طعن رمزي في قوانين الإقصاء غير المكتوبة وإعلان عن حقه في أن يكون ذاتا مبدعة لا موضوعا للإدماج الإجباري.

إن يده التي لا تغلق بالكامل تنفتح رمزيا على ما هو أوسع من قبضات العاديين، تنفتح على سؤال الحق في التعبير الفني، في المشاركة، في القيادة الإبداعية وما يصنعه فوق الخشبة لا ينتمي إلى “مسرح الإعاقة” كما يروج له اختزاليا إنما إلى مسرح الحق في الاختلاف، مسرح يراكم جماليات جديدة من داخل الجسد المغاير لا من خارجه.

والاستثمار في تجربة كهذه لا يعني فقط تمكين شخص لكنه يعني إعادة النظر في المنظومة المسرحية برمتها من مناهج التكوين، تصورات الإخراج، آليات اختيار الكاستينغ بل وحتى معنى “القدرة” نفسه، فحين يصير الجسد غير النمطي مادة فن فإن المسرح يتحول إلى مختبر يعيد تعريف العقد الاجتماعي ويمنح لكل مواطن جسديا أو رمزيا حقه في التمثيل.

مبركي الذهبي لم ينتظر مقعدا ضمن برامج الإدماج لكنه صنع موقعه بخيوط العزيمة والتكوين والتعبير الفني المتعدد من الكتابة إلى الرسم، من التنشيط الطفولي إلى التمثيل الدرامي ولم تمنعه أصابعه من أن يمسك المسرح بل كانت السبب في أن يراه من زاوية أكثر إنسانية وأكثر عدلا.

وفي ختام المشهد، لا يبقى إلا أن نسأل أليست الأصابع التي لا تطبق قبضتها هي نفسها التي تركت المجال مفتوحا للحلم وللسؤال ولإعادة صياغة المسرح كفعل مدني لا يخضع الجسد لمعايير مثالية لكنه يمنحه كامل حقه في أن يكون؟

آخر الأخبار

إيقاف "راقٍ شرعي" على تيك توك بتهم اغتصاب وابتزاز في المنستير

إيقاف "راقٍ شرعي" على تيك توك بتهم اغتصاب وابتزاز في المنستير

أصابع لا تنطبق… ومسرح لا ينغلق

أصابع لا تنطبق… ومسرح لا ينغلق

ثلاثي أوروبي يضغط: باريس وبرلين ولندن تطالب بإنهاء الحصار على غزة وتحذر من المجاعة

ثلاثي أوروبي يضغط: باريس وبرلين ولندن تطالب بإنهاء الحصار على غزة وتحذر من المجاعة

عطر يكتب الذاكرة في مدينة القيروان 

عطر يكتب الذاكرة في مدينة القيروان 

الحرس البحري ببنزرت يُحبط عملية "حرقة" ويسترجع مركبًا مسروقًا

الحرس البحري ببنزرت يُحبط عملية "حرقة" ويسترجع مركبًا مسروقًا

Please publish modules in offcanvas position.