في مدينة تتقاطع فيها الذاكرة مع الريح كانت القيروان تفتح ذراعيها لوردة لا كمنظر موسمي، إنما كإعلان هادئ عن عودة المعنى، من 18 إلى 20 أفريل 2025 لم تكن المدينة مجرد فضاء جغرافي يحتضن مهرجانات لكن جسدا حيا ينبض بعطر قديم يحفر مساراته في الروح قبل الشارع ويزرع فينا ذلك الإحساس الغامض بأن الجمال حين يكون حقيقيا لا يحتاج إلى إذن ليغيرنا.
مهرجان "ورد القيروان" في دورته الثانية لم ينظم كاحتفالية عابرة لكنه كنداء صامت يذكر المدن بهويتها كلما أوشكت على التبخر، وقد كانت وفاء مامني رئيسة جمعية "القيروان مدينتي" القلب النابض لهذا الحدث لا تنسق فقط بل تنفخ الروح في التفاصيل، تنظم لتعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وترابه، بين الزهر واليد التي تقطفه، بين المدينة وصورتها العميقة، ولم يكن الأمر حفلا لكنه مشروعا نابعا من رغبة صادقة في ترميم الهوية بالعطر وفي إعادة تعريف العلاقة بين المرأة والريف، بين العمل والمجد، بين التاريخ واليومي.
ومن الشمال الغربي حيث تنبع الأرض بالعزلة والماء حضرت جندوبة لا كجهة جغرافية لكن كنبضٍ آخر من الوطن، فقد شاركت جمعية "المرأة الريفية بجندوبة" في هذا العرس الهادئ من خلال منسقتها الوطنية إيمان مزريقي تلك التي تعرف أن التمثيل الحقيقي لا يكون بالخطابات إنما بالفعل اليومي، المتين، الهادئ كجذر، وجاءت جندوبة في ثوب امرأة لتقول نحن هنا لا نزاحم بل نكمل ولا نحضر لنُرى بل لنضيف.
وإلى جانبها وقفت سهام زيراوي المنسقة الجهوية بالقيروان كأنها لسان الأرض التي تفهم أن الورد لا يحتاج فقط إلى الماء لكن إلى من يقرأ صمته، وقد كانت صلة الوصل بين ما يحلم به وما ينجز، بين الرؤية المجردة والواقع الحي تنقل المعنى من التخطيط إلى الحقول من الفكرة إلى يد النساء اللواتي يعملن من أجل كرامة لا تتبخر في الضوء.
المدينة تلك الأيام لم تكن كما عهدناها، كانت أجمل من العادة لا بزينة إضافية لكنها بذلك الانسجام العميق الذي يحدث حين تتصالح المدينة مع إيقاعها الطبيعي حين تسمح لنفسها أن تتكلم بلسان الزهر، وتقطير الورد لم يكن طقسا تجميليا لكنه استرجاعا لذاكرة ظلت مغمورة تحت غبار العجلة اليومية، فجأة صار للماء رائحة تشبه الأمهات وصار للبتلات وزن يقاس بالحنين.
ومن الورشات إلى المعارض، من المسابقات إلى الحقول، من عروض الأطفال إلى أكف النساء كان للمهرجان نفس واحد أن العطر لا يشم فقط لكنه يفهم، وأن الجمال حين يصاغ بأيد تعبث بالتراب يصير أصدق، وكأن الورود تتفتح في كل مكان لا لأن فصل الربيع فرض طقسه لكن لأن القلوب كانت مستعدة للانفتاح، وكأن الزهر وجد في القيروان تربة جديدة لا زراعية لكن بشرية.
ولم يكن هذا الحدث خاليا من الرهان إنما كان دعوة إلى قراءة جديدة لعلاقة الإنسان بالطبيعة، للمرأة بالعمل، للريف بالمدينة، فالنساء الريفيات لم يكن هناك في موقع التلقي لكنهن كن مركز الفعل، جوهر الاقتصاد الجديد، وسر الاستدامة الهادئة، ولم يكن الأمر صدفة لكنه ثمرة شراكات كثيرة وعملٍ طويل وإيمان بأن اليد التي تقطف الورد يمكنها أن تصوغ المصير.
ولم تنظم الفعالية من أجل التصفيق إنما من أجل ترك أثر وحين غادر الزوار المدينة لم يحملوا معهم فقط قارورات صغيرة من ماء الورد لكن شيئا أثقل من ذلك بكثير شعورا بأن الورد حين يعامل باحترام يستطيع أن يحدث ثورة هادئة تربك المنطق القديم وتفتح نوافذ جديدة على المستقبل.
هكذا كانت القيروان في ذلك الموعد مدينة تنبعث من زهرة وزهرة تتفتح من مدينة وبينهما نساء ينسجن خيوط الضوء من عطر الأرض.
وشكرا موصولا لجميع الأعضاء المساهمين والمشاركين في هذه الدورة، أولئك الذين كانوا خلف الكواليس كما في الواجهةممن خططوا، دعموا، زرعوا، وقطفوا لحظة النجاح برهافة الصمت، جزيل الشكر أيضا لحفاوة الاستقبال التي كانت أطيب من الورد وأندى من الصباح.