ما زال الشباب التونسي رغم ما يختزنه من طاقات وعقول وثابة يقف على عتبات الإقصاء كأنه زائر غير مرحب به في وطن أثقل بالمآسي والتحديات، هذا الشباب الذي كان ولا يزال محرك الأحداث الكبرى يجد نفسه اليوم محاطا بجدران تزداد ارتفاعا كلما سعى نحو أفق أرحب وكأن التغيير الذي آمن به ذات يوم بات حلما معلقا لا يدرك.
مقالات ذات صلة:
تمكين النساء والشباب هو المفتاح لتحقيق أهداف الثورة
الشباب في الأحياء الشعبية يعيشون أمل مكبل بتحديات الواقع
وزير الصحة الألماني يسعى لفرض حظر على غاز الضحك بعد تصاعد استخدامه كمخدر بين الشباب
منذ أن استيقظت تونس على أصوات شبابها الصادح بالحرية والكرامة كان الحلم واضحا باحثا عن وطن يسوده الإنصاف وعدالة تقيم الميزان بين الجميع، وما دعمهم الكبير لرئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد إلا دليل على هذا الإيمان العميق بقيم العدل والمساواة، فلم يكن ذلك مجرد لحظة عابرة بل تعبيرا عن رغبة جيل كامل في قلب الموازين لصالح الوطن الذي أراده الجميع.
غير أن واقع الحال يثير تساؤلات ملحة ولعل منها أذكر: كيف يمكن لشباب تونس أن يكونوا محرك التغيير وهم أول ضحاياه؟ وكيف يمكن لجيل آمن بالعدالة الاجتماعية وساند مشروع إصلاح شامل أن يجد نفسه رهين الإقصاء عاجزا عن تحقيق ذاته ومقصيا عن أبسط حقوقه في المشاركة والاعتراف؟
الشباب التونسي الذي ملأ الميادين بشعارات الكرامة والحرية لم يكن يبحث عن امتيازات بل كان يطالب بحقه الطبيعي في وطن يحترم أحلامه ويقدر تضحياته، ولكن يبدو أن أصواتهم التي كانت يوما مجلجلة في الساحات أصبحت تقابل بالصمت أو التجاهل، فبعد أن انقشع غبار اللحظة الثورية وجد هذا الشباب نفسه محاصرا بين سياسات عقيمة وظروف اقتصادية واجتماعية تلقي به في هامش المجتمع.
وعلى الرغم من ذلك، لم يحد أغلبهم عن مبادئهم فقد ظلوا مؤمنين بأن العدالة الاجتماعية ليست شعارا أجوف بل حقا أصيلا يمكن تحقيقه، صحيح بانهم دعموا رئيس الجمهورية الاستاذ قيس سعيد لا فقط لوعوده بل لأنهم وجدوا فيه صدى لطموحاتهم، ولم تكن مساندتهم له انقيادا أعمى بل خيارا واعيا ينبع من قناعتهم بضرورة الإصلاح، ولكن بين الآمال المعلقة والواقع المأزوم تظل الفجوة واسعة وتظل الأسئلة بلا إجابات.
إن ما يواجهه الشباب ليس مجرد أزمة اقتصادية أو اجتماعية بل هو شعور عميق بأنهم يعيشون في وطن لا يعترف بوجودهم، ففرص العمل تبدو كحلم بعيد والتعليم الذي يفترض أن يكون بابا للارتقاء أصبح في كثير من الأحيان عبئا يثقل كاهل الأسر، وحتى الثقافة التي كانت يوما نافذة للإبداع والتجدد أصبحت مجالا منغلقا وكأنها تقصي الشباب بدلا من أن تحتضنهم.
الهجرة التي أصبحت خيارا جماعيا للكثير من الشباب ليست مجرد رغبة في تحسين الظروف المعيشية، فهي صرخة استغاثة صامتة ورسالة بأنهم يشعرون بأن وطنهم قد أغلق أبوابه أمامهم، وليس لأنهم فقدوا الأمل في تونس بل لأن تونس لم تظهر بعد قدرتها على أن تكون وطنا للجميع.
لكن، ورغم هذه التحديات يظل شبابنا قادرا على صنع الفرق، فلقد أثبت التاريخ أن الأمم لا تبنى إلا بعقول شبابها وسواعدهم، فهم الذين كانوا في طليعة النضال من أجل الكرامة والحرية لا يزالون يحملون في داخلهم شجاعة التغيير، ولكن هذا التغيير لن يتحقق إلا إذا أعيد الاعتبار لهم ليس فقط كأفراد يطالبون بحقوق بل أيضا كركيزة أساسية في بناء مستقبل هذا الوطن.
وإن الخروج من هذا المأزق لا يتطلب شعارات جديدة بل خطوات جريئة تعيد الثقة للشباب، وعليهم أن يشعروا بأن أصواتهم مسموعة وأن أفكارهم محل تقدير، فتونس التي نحلم بها جميعا والتي آمن بها شبابها وساندوا رئيسها لا يمكن أن تنهض إلا إذا أعيدت لهم مكانتهم الطبيعية في الصفوف الأولى، ولا ننسى بأنهم قد اثبتوا في محطات كثيرة أنهم مستعدون لتحمل المسؤولية ولكن هل سيمنحون الفرصة؟ أم سيبقوا رهينا للإقصاء والتهميش؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا تتعلق فقط بمستقبل الشباب بل بمصير تونس بأكملها، فهم ليسوا عبئا على الدولة بل هم أعظم ثرواتها، وإذا أهدر هذا المورد الثمين فإن الخسارة لن تكون لهم وحدهم بل للوطن الذي سيظل عالقا في أزماته، فتونس التي يؤمن بها شبابها هي وطن يتسع للجميع، وطن يعترف بقدرات أبنائه ويعطي لكل منهم مكانته، وحتى يعاد بناء هذا الوطن لا بد أن نتجاوز منطق الوعود الرنانة والسياسات المؤقتة؛ تونس التي نريدها وتلك التي يستحقها شبابها يجب أن تبنى على شراكة حقيقية شراكة تقوم على الإيمان بأن كل فرد فيها هو جزء من الحل وليس مجرد متلق للقرارات أو ضحية للأخطاء.
شبابنا ليس بحاجة إلى مبادرات سطحية تروج في المناسبات الإعلامية أو إلى خطابات تضج بالوعود التي لا تترجم على أرض الواقع، وما يحتاجه اليوم هو خارطة طريق واضحة تعيد لهم الأمل والثقة، هذه الخارطة لا تبدأ إلا بإدماجهم الحقيقي في عملية صنع القرار سواء عبر تمكينهم من قيادة المشاريع الوطنية أو عبر تمثيلهم في مواقع المسؤولية.
أكثر من ذلك، يجب أن يكون هناك التزام جاد بتغيير النموذج التنموي ليصبح أكثر عدالة ومرونة، وهذا يعني أن يتم التركيز على القطاعات التي تستوعب طاقات الشباب وتفتح لهم آفاقا جديدة بدءا من دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وصولا إلى تمكينهم من لعب دور قيادي في المجالات الرقمية والثقافية والتعليمية.
ولكن هذا الإدماج لن ينجح ما لم تخلق بيئة تحترم كرامتهم وتعزز انتماءهم للوطن، فبناء الثقة يتطلب سياسات تعكس احتراما حقيقيا لإنسانيتهم من خلال ضمان التعليم ذي الجودة العالية والحق في العمل والعيش الكريم والاستماع إلى تطلعاتهم دون استخفاف أو تحقير.
إن الشباب الذين ساندوا رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد ورأوا فيه تجسيدا لرؤى العدالة والإنصاف كانوا يفعلون ذلك بدافع الإيمان بأن لحظة التغيير قد حانت، وهذا الجيل لم يكن ساذجا في رهانه بل كان مدفوعا برغبة صادقة في تحقيق القيم التي طالما حلموا بها، وعلى الرغم من التحديات فإن أغلبهم لم ينحرف عن مبادئه لأنه يرى أن العدالة الاجتماعية ليست مجرد خيار بل ضرورة لبناء وطن آمن ومستقر.
ولكن، مع مرور الوقت بدأت علامات الاستفهام تتكاثر هل سيتمكن هذا الجيل من تحقيق أحلامه داخل وطنه؟ أم أن غياب الرؤية الواضحة سيستمر في دفعهم نحو خيارات مؤلمة أبرزها الهجرة؟
إن الأوطان التي تقصي شبابها تحكم على نفسها بالجمود لأن عجلة التقدم لا يمكن أن تدار إلا بعقول شابة تفكر خارج الصندوق وأيد متحمسة تنفذ برؤية جديدة، وتونس التي عاشت تحولاتها الكبرى بفضل حراك شبابها ليست استثناء.
اليوم ونحن نعيش في زمن يفرض على الجميع تحمل مسؤولياتهم فإن إعادة الاعتبار للشباب لم تعد مسألة اختيارية بل هي خيار وجودي، فإذا أردنا لبلادنا أن تستعيد عافيتها علينا أن نؤمن بشبابها ليس فقط كشركاء بل كقادة للمستقبل.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن النهضة دون الشباب ولا عن العدل دون إشراكهم ولا عن المستقبل دون أن يكونوا صناعه، فهم الذين أظهروا صمودهم وإصرارهم رغم كل التحديات ومازالوا يؤمنون بأن الغد سيكون أفضل، ولكن هذا الغد لن يكتب له النجاح إلا إذا قررنا جميعا أن نكون صادقين مع أنفسنا وأن نعيد لهذا الجيل حقه في الحلم والعمل والإنجاز.
إن تونس التي نحلم بها جميعا والتي دافع عنها شبابها وضحوا من أجلها لا يمكن أن تبنى إلا على أكتافهم، فهل سيأتي اليوم الذي ندرك فيه قيمة هذا الجيل؟ أم أننا سنظل ندور في دائرة الإقصاء نخسر معه فرصتنا في مستقبل أفضل؟