لا يمكن لأي نظام سياسي أن ينجح دون إدارة فعالة ومحورية على المستوى المحلي حيث تعتبر البلديات القلب النابض لأي عملية تنموية أو إصلاح هيكلي شامل؛ وفي تونس تعيش البلديات أزمة غير مسبوقة، أزمة تتجاوز التحدي الإداري لتكشف عن أزمة شرعية سياسية أعمق باتت تهدد السلم الاجتماعي وتعصف بمفهوم الديمقراطية المحلية التي كانت إحدى ركائز التحول السياسي في البلاد.
مقالات ذات صلة:
بلدية تونس تدعو السكان والتجار لدعم جهود النظافة وتحسين المشهد الحضري
صرخة الاستاذ شفيق بن يوسف: نداء عاجل إلى بلدية تونس لإنقاذ الأرواح
زياد غناينية يتألق في برنامج زوم على الثقافة في راديو واب بلدية صفاقس
لقد أدى غياب المجالس البلدية المنتخبة إلى فراغ قانوني وإداري نجم عنه ضعف واضح في أداء البلديات وانحدار جودة الخدمات التي تعد العصب الحيوي لحياة المواطن اليومية هذا الوضع أثار استياء شعبيا متزايدا، إذ إن المواطن يجد نفسه ضحية لتداخل الصلاحيات وسوء الإدارة بينما تتفاقم الأوضاع داخل البلديات التي أصبحت أشبه بمؤسسات بلا روح يديرها إداريون أو كتاب عامون حسب رأي الاغلبية من الشعب يفتقرون إلى الشرعية الشعبية التي تضفي المصداقية على قراراتهم.
إن التلكؤ في تحديد موعد الانتخابات البلدية يكشف عن أزمة سياسية عميقة في التعاطي مع قضايا الحكم المحلي، فمن غير الممكن الحديث عن دولة متماسكة دون وجود مؤسسات محلية منتخبة قادرة على تحمل مسؤولياتها في إدارة الشأن اليومي للسكان، فالبلديات ليست مجرد هياكل إدارية لتقديم الخدمات بل هي مؤسسات ديمقراطية تمثل صلة الوصل بين المواطن والدولة وغياب هذه المجالس يعني غياب الصوت الشعبي الحقيقي في صناعة القرار المحلي وهو ما يترك الباب مفتوحا أمام استشراء الفوضى الإدارية وتدهور الخدمات.
وفي سياق البحث عن حلول مرحلية، برزت فكرة إرساء نيابات خصوصية كإجراء مؤقت يمكن أن يخفف من وطأة الأزمة ولكن حتى هذه المبادرة تظل رهينة وضوح الرؤية وصرامة الإجراءات القانونية، ولكي تنجح النيابات الخصوصية في أداء دورها لابد من أن تستمد شرعيتها من أعلى هرم السلطة في البلاد أي رئاسة الجمهورية نظرا إلى كونها الجهة الوحيدة القادرة على توفير الإطار القانوني والسياسي الملائم لإرساء مثل هذه الهياكل في انتظار تنظيم الانتخابات، فهذا التحرك يجب أن يكون استباقيا وسريعا مع ضمان أن النيابات الخصوصية ليست سوى خطوة انتقالية وليست بديلا دائما عن المجالس المنتخبة.
ورغم أهمية الحلول المؤقتة، فإنها لا يمكن أن تعالج جوهر المشكلة الذي يكمن في غياب رؤية سياسية شاملة لإصلاح البلديات، اذ ان تونس بحاجة إلى انتخابات بلدية عاجلة ليس فقط لإعادة الشرعية إلى هذه المؤسسات بل لتفعيل دورها التنموي والاقتصادي في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل طاقاتها للتصدي للتحديات المتفاقمة، كما وان تحسين الخدمات البلدية وتطويرها لن يكون ممكنا إلا عبر مجالس منتخبة تتوفر لها الموارد المالية والصلاحيات التشريعية التي تمكنها من العمل بفعالية واستقلالية.
وفي ظل هذه الأزمة، لا يمكن فصل قضية البلديات عن السياق العام للحوكمة في تونس، كما وان أزمة البلديات هي جزء لا يتجزأ من أزمة أوسع تتعلق باللامركزية التي بقيت حبيسة النصوص التشريعية دون أن تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي، ولتحقيق قفزة نوعية في أداء هاته البلديات لابد من مراجعة شاملة للإطار القانوني الذي ينظم عملها وضمان تكامل حقيقي بين السلطة المركزية والمحلية بعيدا عن المركزية المفرطة التي أضعفت أداء البلديات وحولتها إلى أدوات تابعة بدل أن تكون شريكة في صنع القرار.
وعليه، فإن الانتخابات البلدية لم تعد مجرد استحقاق سياسي أو قانوني بل أصبحت ضرورة وجودية لبقاء الدولة التونسية قادرة على الاستجابة لاحتياجات مواطنيها، اذ ان إرجاء هذه الانتخابات لا يؤدي سوى إلى تعميق الفجوة بين المواطن ومؤسساته ويخلق بيئة خصبة لاحتقان اجتماعي قد يصعب احتواؤه لاحقا، كما يجب أن تدرك الطبقة السياسية أن تدهور الخدمات البلدية لا يقاس فقط بعدد الشوارع غير المعبدة أو تراكم النفايات بل هو مؤشر على عجز الدولة عن تلبية أبسط احتياجات شعبها وهو ما يهدد شرعية النظام السياسي بأكمله.
ختاما، لا يمكن لتونس أن تخطو نحو مستقبل مستقر دون أن تعيد الاعتبار لبلدياتها باعتبارها حجر الزاوية في كل عملية إصلاح، فالانتخابات البلدية ليست مجرد محطة في أجندة سياسية بل هي انعكاس لالتزام الدولة تجاه مواطنيها، ومهما كانت التحديات صعبة فإن تأجيل هذا الاستحقاق أو التعامل معه كملف ثانوي ليس إلا تأجيلا لأزمة أكبر ستفرض نفسها عاجلا أم آجلا، فالوقت قد حان لاتخاذ القرار الشجاع وإعادة الروح إلى البلديات عبر صناديق الاقتراع لأن الديمقراطية تبدأ من المحليات ومن دونها لا يمكن الحديث عن دولة عصرية عادلة.