يشكل إسقاط مقترح قانون تنظيم ترحيل المهاجرين غير النظاميين في تونس نقطة تحول حاسمة في المسار التشريعي الوطني، إذ يتجاوز القرار كونه مجرد خطوة إدارية إلى ما هو أبعد من ذلك، ليحمل في طياته إشكاليات دستورية وحقوقية تلامس صميم الهوية السياسية للدولة التونسية وعلاقتها بالواقع الدولي والمحلي، اذ يعد هذا التطور تجسيدا عميقا للتباين بين الممارسات السياسية والتشريعية من جهة ومتطلبات العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان من جهة أخرى؛ وما يثير القلق في هذه الواقعة هو أن القرار لا يأتي في سياق مجرد فشل مقترح بل يعكس خللا منهجيا في إدارة قضايا ذات بعد إنساني يتطلب تفاعلا قانونيا مرنا يتماشى مع التحديات الراهنة.
مقالات ذات صلة:
مظاهرات في ألمانيا تطالب بترحيل المهاجرين بعد اعتداء الدهس في ماغديبورغ
افريقيا في جندوبة والكاف وباجة: ترحيل أم حل مؤقت؟
قرار الملك البريطاني بترحيل طالبي اللجوء: تحديات وانتقادات
إن إسقاط المقترح من قبل مكتب المجلس الذي أوقفه عن الانتقال إلى اللجنة المختصة لم يكن مجرد مخالفة لإجراءات النظام الداخلي للمجلس بل كان بمثابة تعطيل غير مباشر لمسار تشريعي كان من المفترض أن يواجه إحدى القضايا الاجتماعية الأكثر تعقيدا في تونس، وهي قضية الهجرة غير النظامية، فهذا الإجراء ليس مجرد خطوة مؤسسية في سياق الممارسة السياسية بل هو إشارة لغياب رؤى استراتيجية واضحة في التعامل مع هذا الملف الحساس حيث تتجلى الأزمة في افتقاد التشريع التونسي لاستجابة شاملة مرنة وعادلة لظاهرة الهجرة التي تحتل اليوم مكانة بارزة في النقاشات الدولية.
ومن منظور دستوري، يظهر أن القرار يتناقض مع المبدأ الدستوري الذي ينص على أن البرلمان هو السلطة التي يجب أن تضع القوانين اللازمة لمواجهة تحديات الأمن الوطني والاجتماعي، فرفض إحالة المقترح إلى اللجنة المختصة يعد تجاوزا لدور النواب في ممارسة صلاحياتهم الدستورية، وهذه الخطوة تطرح تساؤلات جدية حول قدرة النظام التشريعي على تقديم حلول مناسبة للمشكلات العميقة التي تؤرق البلاد ومنها قضايا الهجرة التي لا تتعلق فقط بالأمن أو الحدود بل تشكل أيضا قضية حقوقية بامتياز؛ وفي هذا السياق، يظهر أن إسقاط المقترح يعكس نوعا من التردد الذي يطبع التعامل التونسي مع المسائل الإنسانية ويكشف عن غياب منهجية قانونية تعكس التزامات الدولة تجاه حقوق الإنسان في ظل الظروف الراهنة.
وعلى الرغم من التصريحات المتكررة لرئيس الجمهورية قيس سعيد التي تؤكد على رفض توطين المهاجرين غير النظاميين في تونس، فإن إسقاط المقترح يطرح إشكاليات متعلقة بتوافق المواقف السياسية مع الإجراءات التشريعية، ففي الوقت الذي يتمسك فيه الرئيس بمواقف رافضة لاستقبال المهاجرين يتضح أن هنالك فجوة بين هذا الموقف وبين غياب المبادرات التشريعية الجادة التي تقدم حلولا قانونية محكمة لهذه الظاهرة، ولعل السؤال الذي يظل مطروحا هو هل أن الإسقاط نابع من رؤية سياسية تتجاوز التشريع تهدف إلى تأجيل اتخاذ قرارات حاسمة في هذا الشأن؟ أم أن هنالك انقساما داخل النظام السياسي التونسي حول كيفية مواجهة هذه القضايا وهل يتم التعامل معها بمنظور أمني صرف أم بمنظور حقوقي؟
إن مقترحات قوانين الهجرة في العديد من الدول المتقدمة، على غرار ألمانيا والولايات المتحدة تشهد تطورا نحو صياغة إطار قانوني يعترف بحقوق المهاجرين غير النظاميين في إطار احترام الإجراءات القانونية والأمنية اللازمة، ففي هذا السياق، تظل تونس بحاجة ماسة إلى وضع إطار قانوني مستدام يتماشى مع المعايير الدولية ويحترم حقوق الإنسان وذلك لتجنب العواقب الوخيمة الناتجة عن غياب استراتيجية واضحة وشفافة، فإذا كانت تونس تسعى إلى تعزيز سيادتها الوطنية وحماية حدودها فإنها مطالبة في الوقت ذاته بتوفير حلول عملية تضمن احترام كرامة الإنسان حتى في أوقات الأزمات.
ولكن السؤال الأعمق الذي يطرح نفسه هو هل أن إسقاط هذا المقترح يعكس فشلا في الإدراك التشريعي للمسائل الإنسانية أم أنه نتيجة لضغوطات سياسية تجعل من هذه القضية موضوعا مفتوحا على احتمالات غير حاسمة؟ هل أن ما جرى يعبر عن تراجع في الدور الدستوري للمجلس النيابي الذي من المفترض أن يقود الحوارات القانونية والتشريعية اللازمة في مواجهة التحديات الكبرى؟ ومن هنا يمكننا التساؤل ايضا هل سيظل البرلمان التونسي عاجزا عن توفير حلول قانونية حقيقية لهذه القضايا أم أن غياب التشريع في هذا المجال يظهر عجزا عن صياغة استراتيجية واضحة للتعامل مع قضايا الهجرة في ظل الديناميكيات الجيوسياسية الحالية؟
إسقاط هذا المقترح، إذا ما تم النظر إليه من زاوية أعمق لا يشكل فقط تعطيلا لمبادرة تشريعية بل هو بمثابة علامة فارقة في غياب الإرادة السياسية الحقيقية لمواجهة قضية من هذا الحجم الثقيل فالتسويف في معالجة القضايا الإنسانية في هذا السياق لا يعد تراجعا قانونيا فحسب بل هو أيضا تأكيد على أن النظام السياسي في تونس لا يزال يفتقر إلى القدرة على تقديم حلول مبتكرة تتجاوز التحديات الآنية وتستشرف المستقبل بأفق أوسع، وبالتالي فإن الإصلاح التشريعي في هذا المجال يحتاج إلى رؤية استراتيجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار الحقوق الإنسانية مع الحفاظ على مصالح الدولة وتطلعاتها المستقبلية دون الوقوع في فخ الحسابات السياسية الضيقة التي تعرقل أي تقدم حقيقي.