في ظل الأزمات المتصاعدة التي تعيشها تونس على الأصعدة الاقتصادية والسياسية تبدو الحاجة إلى بناء حلول قانونية متكاملة وفعالة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وإن أي محاولة لتجاوز هذه الأزمة يجب أن تقوم على أسس قانونية تتناغم مع أحكام الدستور التونسي لسنة 2022 الذي أتى ليؤكد ضرورة تعزيز الحوكمة الرشيدة وضمان الحقوق والحريات الأساسية، فالدستور الجديد بقدر ما يطرح تحديات على المستوى السياسي فإنه يفتح آفاقا لإصلاحات قانونية تتماشى مع مقتضيات الواقع الراهن.
مقالات ذات صلة:
جامعة النقل تحذر: لا للتعامل مع "Bolt" وتطبيقات غير القانونية
"الفتنة"... جدل قانوني يشعل الساحة الفنية في رمضان 2025!
التسويق الرقمي تحت المجهر: قانون جديد يضع حدًا لفوضى التجارة الإلكترونية في تونس!
أولا، تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاحات هيكلية في الاقتصاد التونسي وهو ما يتطلب تفعيل مجموعة من القوانين الأساسية التي تساهم في تحسين بيئة الأعمال وتهيئتها لاستقطاب الاستثمارات، ويشكل قانون الاستثمار التونسي (القانون عدد 71 لسنة 2016) أداة حيوية لتحفيز الاستثمار ولكن من دون تعزيز نظام ضريبي عادل وفعال تبقى هذه الجهود قاصرة، إذ يجب تطوير النظام الضريبي ليشمل فرض ضرائب على القطاعات الأكثر ربحية وتوسيع القاعدة الضريبية الأمر الذي يحسن من موازنة الدولة ويعزز من قدرتها على تمويل المشاريع التنموية.
ومع أن الإصلاحات الاقتصادية تظل في صلب المعركة القانونية إلا أن إشكالية الدعم لا تقل أهمية، إذ يجب إحداث إصلاحات تضمن أن الدعم يوجه إلى القطاعات الأكثر احتياجا مع الحد من الهدر المالي الذي يؤثر سلبا على الموارد العامة.
فيما يتعلق بالدبلوماسية الاقتصادية، يعد تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول الشقيقة والصديقة أمرا حيويا وعلى تونس أن تعزز دبلوماسيتها الاقتصادية لتأمين مصادر تمويل مستدامة من خلال القروض والمنح الدولية مع ضمان احترام التزاماتها المالية وتجنب ارتفاع الدين العام، ومن هنا يمكن التأكيد على أهمية تفعيل برامج التعاون مع المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مع البحث عن حلول مالية مبتكرة تضمن استدامة الاقتصاد الوطني.
وبالنظر إلى أهمية استكمال بناء المؤسسات الدستورية، فإن المحكمة الدستورية تعد خطوة أساسية في حماية الحقوق وحفظ النظام الديمقراطي، إذ ينص الفصل 118 من الدستور على ضرورة إرساء المحكمة لتكون مرجعية أساسية للفصل في النزاعات الدستورية وضمان احترام الدستور،وفي هذا الصدد فإن تأجيل تنصيب المحكمة الدستورية كان له تأثير بالغ على استقرار النظام السياسي في تونس حيث ساهم في تراجع الثقة في المؤسسات القضائية وفي غياب الرقابة القانونية الفعالة على تصرفات السلطة التنفيذية.
أما في ما يتعلق بالفساد، فإن الدولة التونسية ملزمة بتفعيل قانون مكافحة الفساد (القانون عدد 10 لسنة 2017) وفقا لما ينص عليه الفصل 122 من الدستور الذي يؤكد على "مهام الهيئات الرقابية"، وهنا لابد من التأكيد على أهمية تفعيل الهيئات الرقابية المستقلة مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وضرورة إشراك القضاء في تعزيز دور الرقابة على الإدارة العامة من خلال تطبيق قوانين أكثر صرامة ضد الفاسدين.
على المستوى الاجتماعي، تتطلب الإصلاحات في النظام التعليمي والصحي تعديلا للقوانين ذات الصلة لضمان توفير بيئة تعليمية وصحية تتماشى مع تطلعات الشعب التونسي، ومن هذا المنطلق يجب على تونس أن تراجع قانون التعليم الأساسي (القانون عدد 1 لسنة 1989) لتحديث المناهج الدراسية بما يتماشى مع احتياجات سوق العمل، كما أن الفصل 40 من الدستور يضمن "الحق في التعليم" مما يفرض على الدولة تعديل قانون الرعاية الصحية (القانون عدد 23 لسنة 1991) لتوسيع نطاق التغطية الصحية وضمان جودتها لجميع المواطنين.
ولا شك أن تحفيز النظام العدلي من خلال تطوير قانون الحوكمة العامة يظل من أولويات الإصلاح، فقد نص الفصل 99 من الدستور على "مهام السلطة القضائية" وهو ما يتطلب تبسيط الإجراءات الإدارية وتعزيز الشفافية، وهذا يتطلب تفعيل قانون الحق في الوصول إلى المعلومة (القانون عدد 22 لسنة 2016) لتيسير عملية الرقابة على الأداء الحكومي وتوفير ضمانات للمواطنين في مشاركتهم في اتخاذ القرارات السياسية.
ومن هذا المنطلق، تعد الإصلاحات القانونية المقترحة وهي في جوهرها تجسيد للمبادئ الدستورية خطوة أساسية يجب أن تسير بشكل متوازٍ مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها البلاد، فهذه الإصلاحات لا تقتصر على تعديل القوانين فحسب إنما تتطلب أيضا بناء مؤسسات ديمقراطية قوية تتمتع بالاستقلالية والشفافية وبالتالي تسهم في تحقيق استقرار سياسي واجتماعي يعكس طموحات الشعب التونسي، كما وأن التزام تونس بالمبادئ القانونية التي أرساها الدستور يشكل السبيل نحو بناء دولة قانونية قادرة على التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية وتوفير حياة كريمة لجميع مواطنيها.