اختر لغتك

إرساء المحكمة الدستورية ضرورة سيادية ملحة لترسيخ دعائم علوية الدستور وحماية أركان استقرار الدولة التونسية وازدهارها المستدام

إرساء المحكمة الدستورية ضرورة سيادية ملحة لترسيخ دعائم علوية الدستور وحماية أركان استقرار الدولة التونسية وازدهارها المستدام

إرساء المحكمة الدستورية ضرورة سيادية ملحة لترسيخ دعائم علوية الدستور وحماية أركان استقرار الدولة التونسية وازدهارها المستدام

في خضم التحديات الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة التي تواجه الدولة التونسية على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية، تبرز بجلاء أكثر من أي وقت مضى ضرورة سيادية ملحة تتجاوز حدود المطالب القانونية والإجرائية وتتمثل في التعجيل بإرساء المحكمة الدستورية كهيئة ضامنة للحقوق والحريات، ففي هذا السياق التونسي الدقيق الذي يشهد تحولات بنيوية عميقة وتطلعات شعبية متزايدة نحو إرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية الراسخة يتبدى الحديث عن هذه المؤسسة الحيوية ليس كمجرد ترف فكري أو استحقاق دستوري يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى، إنما يمثل في حقيقته جوهرا أساسيا لسيادة الدولة ورمزا لقدرتها على حكم ذاتها وفقا لمبادئ القانون والدستور تمليه مقتضيات علوية الدستور الراسخة كثابت لا يقبل التهاون وتفرضه الحاجة الأكيدة إلى تحصين البناء القانوني للدولة من أي اهتزازات أو تجاوزات محتملة وضمان انتظام السير العادي والفعال للمؤسسات الدستورية بكامل طاقتها في إطار الاحترام الكامل واللامتناهي لمبادئ الشرعية الدستورية والفصل المتوازن والمرن والتعاوني بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.

مقالات ذات صلة:

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

نحو استكمال البناء الدستوري في تونس

الحكم المحلي في تونس بين مبادئ الدستور وإشكاليات التطبيق

لقد أولى الدستور التونسي لسنة 2014 الذي انبثق عن تطلعات شعبية عريضة نحو الحرية والعدالة والديمقراطية ومن بعده دستور 25 جويلية 2022 الذي جاء في سياق وطني خاص ومحفوف بالتحديات مكانة محورية واستراتيجية للمحكمة الدستورية بوصفها الضامن الأول والأساسي والأخير لاحترام أحكام الدستور باعتباره الميثاق الأسمى والجامع للدولة والمجتمع والساهرة بكل دقة وموضوعية وتجرد على مراقبة التطابق التام والشامل للقوانين والمراسيم والقرارات الصادرة عن مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية مع النص الدستوري الأعلى في الدولة وذلك منعا لأي تعارض أو مخالفة قد تقوض بنيان الدولة القانونية وتقوض ثقة المواطنين في مؤسساتهم، بيد أن الصيغة القانونية لتركيبتها وصلاحياتها وإن باتت مضبوطة بشكل دقيق نسبيا في النصوص الدستورية خاصة في المقتضيات الواردة بالفصول 125 و127 و109 التي تحدد اختصاصاتها وتنظيمها وإجراءات عملها، إلا أن واقع الحال المؤسف والمثير للقلق لا يزال يكشف عن غياب فعلي وملموس لهذه المؤسسة الحيوية التي تمثل صمام الأمان للنظام الدستوري وعن تأخر جسيم وغير مبرر في تفعيلها على أرض الواقع مما خلف فراغا دستوريا خطيرا ذا تداعيات سلبية متعددة الأوجه تجسد بوضوح في أكثر من محطة مفصلية وحساسة في تاريخ البلاد السياسي والمؤسسي ولعل أبرزها الأزمة السياسية العميقة والمعقدة التي عصفت بالبلاد منذ سنة 2021 وما تلاها من تطورات مؤسسية وقانونية واجتماعية.

وإذ أن المحكمة الدستورية باعتبارها هيئة قضائية دستورية مستقلة تمام الاستقلال عن أي تأثير أو ضغط أو تدخل من أي جهة كانت تمثل الحارس الأمين للدستور وروح نصوصه، فإنها لا تمثل مجرد عنصر إضافي أو ثانوي من عناصر النظام القضائي العادي، بل إنها في جوهرها العميق تعد حجر الزاوية الأساسي الذي يقوم عليه نظام الضوابط والتوازنات الدستورية الدقيقة والذي يضمن سلامة العملية الديمقراطية واستقرارها على المدى الطويل ويحول دون انفراد أي سلطة بالقرار أو تجاوزها لحدود صلاحياتها الدستورية، ولذلك فهي دون سواها من الهيئات والمؤسسات الأخرى الهيئة القادرة حصريا على ضبط دقيق وعادل للتداخل المحتمل بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية ومنع أي تغول أو تجاوز أو تعد من إحداها على صلاحيات الأخرى التي يخولها لها الدستور من خلال ممارسة رقابة دقيقة وشاملة وموضوعية على مشروعية التشريعات والقوانين والمراسيم والقرارات الإدارية ومدى مطابقتها الصارمة لأحكام الدستور وروح نصوصه ومبادئه الأساسية وعلاوة على ذلك تتجلى أهميتها بشكل جلي وواضح ولا يمكن إنكارها في دورها الحاسم والمحوري عند شغور منصب رئيس الجمهورية وهو المنصب الأسمى في الدولة ورمز وحدتها واستمراريتها وسيادتها حيث تؤول إليها وحدها مسؤولية دستورية وقانونية دقيقة وحساسة لتأمين الانتقال المؤسسي السلس والمنظم للسلطة وفق ما تقتضيه المادة 109 من الدستور وهو ما يرسخ طبيعتها كضمانة سيادية أساسية لاستمرارية الدولة وسلامة مؤسساتها الدستورية في أصعب الظروف وأدق المراحل التاريخية.

غير أن الإشكال الجوهري والمعيق لعملية بناء دولة القانون في جوهره العميق وأسبابه الجذرية لايكمن في مجرد غياب النص الدستوري أو القانوني المنظم لعمل المحكمة الدستورية لكنه يتعداه بشكل كبير وملحوظ إلى غياب الإرادة السياسية الفعلية والصادقة لدى مختلف الأطراف المعنية والفاعلة في المشهد السياسي والمؤسسي لترجمة هذا النص الدستوري الواضح والصريح إلى واقع عملي ومؤسسة فاعلة وقادرة على القيام بمهامها الدستورية على أكمل وجه  فالقانون وإن سطر بأحرف واضحة المعالم في صلب الدستور يظل مجرد حبر على ورق لا قيمة له ما لم يفعل ضمن رؤية إصلاحية شاملة وعميقة واستراتيجية تتجاوز الحسابات الظرفية الضيقة والمصالح الآنية قصيرة المدى إلى ما هو أعمق وأكثر ديمومة واستراتيجية لمصلحة الوطن والمواطن على المدى الطويل والمستقبلية.

وبسبب استمرار غياب المحكمة الدستورية وتأخر تفعيلها بشكل غير مقبول فقد أفضى ذلك بشكل مباشر إلى حالة من الضبابية القانونية والتشريعية التي تخيم بظلالها على المشهد المؤسسي العام حيث إن ما نشهده اليوم من تعدد في التأويلات المتناقضة والمتباينة للنصوص الدستورية والقانونية المختلفة ما هو إلا نتيجة حتمية لهذا الفراغ المؤسسي الحساس الذي يهدد وحدة القانون واستقراره، وبناء على ذلك فقد ترتب عن ذلك تعطيل واضح وملموس في عمل العديد من مؤسسات الدولة وشل في فعاليتها وقدرتها على اتخاذ القرارات الحاسمة وتراجع ملحوظ في ثقة المواطن في عدالة النظام السياسي ونزاهته وقدرته على تحقيق تطلعاته المشروعة، لاسيما حين تتداخل الأهواء والمصالح الفردية أو الفئوية الضيقة بالتشريعات والقوانين وتغيب المرجعية الدستورية الحاسمة والمستقلة التي تفصل في الخلافات الدستورية وتوحد التفسيرات القانونية.

بناء عليه، فإنه لم يعد بالإمكان بأي حال من الأحوال اعتبار تفعيل المحكمة الدستورية مجرد خيار مؤجل أو أولوية ثانوية يمكن تجاهلها لكن هو شرط أساسي ولازم وحتمي لاستكمال البناء الديمقراطي المنشود وإرساء أسس دولة القانون والمؤسسات الراسخة وضمان حماية فعلية وناجعة للحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور لجميع المواطنين دون تمييز وتحقيق الانسجام والتناغم الضروريين بين نصوص الدستور ومقتضيات الواقع المتجدد وتحدياته المتزايدة، إذ لا يتصور بحال من الأحوال الحديث عن علوية القانون وسيادته على الجميع في ظل غياب الهيئة الدستورية العليا والمستقلة التي تحرسه وتصون مبادئه وتحمي تطبيقه السليم ولا عن استقرار سياسي ومؤسسي راسخ ودائم دون وجود مؤسسة دستورية عليا تضبط إيقاع الشرعية وتؤطر الصراع السياسي ضمن قواعد دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية.

وإذا كانت مسؤولية تركيز المحكمة الدستورية موكولة بحسب نص الدستور الحالي إلى رئيس الجمهورية باعتباره الضامن للدستور والساهر على احترامه، إلا أنها تبقى في جوهرها مسؤولية وطنية جماعية وتضامنية وتاريخية تتقاسمها كل مؤسسات الدولة وسلطاتها المختلفة التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى المكونات السياسية والمدنية الفاعلة في المجتمع من أحزاب ومنظمات وجمعيات وشخصيات وطنية، وبناء على هذه المسؤولية المشتركة والملحة تبرز ضرورة قصوى لتغليب المصلحة الوطنية العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى وتجاوز أي مناورات ظرفية أو حسابات سياسية ضيقة أو مصالح فئوية واعتماد معايير الكفاءة العالية والاستقلالية التامة والنزاهة المشهود بها والخبرة القانونية والدستورية الرفيعة في اختيار أعضاء هذه المحكمة الدستورية الهامة والحساسة بعيدا عن كل شكل من أشكال التوظيف الحزبي أو الولاءات الضيقة أو المحاصصة السياسية.

علاوة على ذلك، وبالنظر إلى طول أمد التأخير غير المبرر والتحديات العديدة التي واجهت تفعيلها طيلة السنوات الماضية لابد من مراجعة معمقة وشفافة وجريئة للعوائق القانونية والإجرائية والسياسية التي حالت دون إحداث المحكمة الدستورية وتفعيلها على أرض الواقع والعمل بشكل جاد ومستمر وبإرادة سياسية حقيقية على تهيئة أرضية تشريعية واضحة ومفصلة وشاملة تتضمن آجالا زمنية دقيقة وملزمة وقابلة للتنفيذ وآليات شفافة وواضحة لتنفيذها على الوجه الأمثل بما يضمن تسريع وتيرة التفعيل الفعلي لهذه المؤسسة الدستورية الهامة والحيوية ويحصنها من أي تأويلات تعطيلية أو محاولات للتأخير أو الالتفاف على النصوص الدستورية.

ذلك أن المحكمة الدستورية، في جوهر وظيفتها الأساسية ودورها المحوري في النظام الدستوري لا ينبغي أن تنظر إليها مطلقا على أنها هيئة احتياطية أو جهاز يتم استدعاؤه فقط عند وقوع الأزمات السياسية أو الدستورية الطارئة وإنما هي جهاز دائم ومستمر في عمله يمارس رقابته الدستورية بشكل يومي ومستمر على القوانين والمراسيم والقرارات الإدارية ويعيد التوازن الضروري متى اختل بين السلطات المختلفة ويمنع الانزلاق نحو الاستبداد أو تجاوز الدستور ومبادئه الأساسية متى تهاوت الضوابط القانونية والمؤسسية.

وبناء على كل ما تقدم من حجج دستورية وقانونية ومنطقية وعقلانية، فإن سنة 2025 التي نشهد بدايتها ينبغي أن تكون موعدا فاصلا وحاسما وتاريخيا يطوى فيه نهائيا ملف التأخير غير المبرر والمطول وترسى فيه المحكمة الدستورية كواقع مؤسسي راسخ وقائم لا كمجرد وعد معلق أو أمنية مؤجلة إلى أجل غير معلوم، ذلك أنه لا يعقل بأي حال من الأحوال أن تستمر الدولة التونسية العريقة في وضعية دستورية منقوصة وغير مكتملة الأركان، إذ أن المواطن التونسي الذي ضحى من أجل الحرية والكرامة لا يفترض أن يظل رهينة فراغ دستوري وقانوني يهدد أمنه السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي على المدى الطويل والمستقبلية، وذلك لأن استقرار الاقتصاد الوطني ونجاعة السياسات العامة وفعالية الإصلاحات الهيكلية العميقة كلها مشروطة بشكل أساسي بوجود استقرار قانوني ودستوري راسخ ودائم لا يتحقق إلا بوجود مؤسسة دستورية مستقلة وقوية وراسخة وفاعلة تقوم بدورها كاملا في حماية الدستور وسيادة القانون وضمان الحقوق والحريات.

ختاما، إن المحكمة الدستورية ليست مجرد تجسيد شكلي وباهت لنصوص الدستور بل تتعدى ذلك بكثير لتكون الضمانة العملية الحقيقية والفعالة لسيادة القانون على الجميع دون استثناء أو تمييز والمرآة الحقيقية والواضحة التي تعكس مدى التزام الدولة بمبادئ دولة المؤسسات والقانون وحماية الحقوق والحريات، فهي صوت العقل الدستوري الهادئ والحكيم وسط صخب الصراعات السياسية والمؤسسية الضيقة ودرع العدالة الواقي والمتين حين تتعرى السلطة من التوازن والرقابة الدستورية الفعالة، وبالنظر إلى هذه الأهمية المحورية والدور الحيوي والاستراتيجي، فإن الإسراع الفوري في تركيزها وتفعيل دورها كاملا على الوجه الأمثل باتا من أولويات المرحلة الراهنة والتحديات المستقبلية لا من هوامشها أو الكماليات المؤسسية التي يمكن تأجيلها.

آخر الأخبار

📚 معرض تونس الدولي للكتاب يعود بشعار "نقرأ لنبني": دورة تحاور المستقبل وتحتفي بالمعرفة

📚 معرض تونس الدولي للكتاب يعود بشعار "نقرأ لنبني": دورة تحاور المستقبل وتحتفي بالمعرفة

🎷 الكاف تستعد للعُرس العاشر للجاز… "سيكا جاز" يعود بنبض تونسي وإيقاعات عالمية!

🎷 الكاف تستعد للعُرس العاشر للجاز… "سيكا جاز" يعود بنبض تونسي وإيقاعات عالمية!

🔴 القطاع السياحي يُنعش الاقتصاد التونسي باستثمارات تجاوزت 500 مليون دينار في 2024

🔴 القطاع السياحي يُنعش الاقتصاد التونسي باستثمارات تجاوزت 500 مليون دينار في 2024

🔴 بعد 19 عامًا من الصمت... "إخوة الدم" يُسقطهم التحقيق!

🔴 بعد 19 عامًا من الصمت... "إخوة الدم" يُسقطهم التحقيق!

🔴 وزارة أملاك الدولة تتحرك: تسريع نسق المشاريع العمومية من خلال تسويغ المقاطع!

🔴 وزارة أملاك الدولة تتحرك: تسريع نسق المشاريع العمومية من خلال تسويغ المقاطع!

Please publish modules in offcanvas position.