البناء والتشييد في تونس كما يروج له في الخطابات ليس مجرد إنجاز عمراني، إنما مشروع رمزي تراد له دلالة تتجاوز الجدران وتلامس جوهر الهوية الوطنية، غير أن السؤال الأعمق الذي لا يطرح علنا لكنه حاضر في ضمير كل مواطن فهل نحن فعلا نبني وطنا؟ أم أننا نشيد واجهة تغطى هشاشة البنية؟ هل ما ينجز على الأرض يعبر عن عدالة تاريخية أم عن إعادة توزيع الانحيازات القديمة بلغة جديدة؟
مقالات ذات صلة:
🔹 تونس تحتضن مؤتمرًا دوليًا حول الإنصاف والإدماج: نحو نموذج تنموي أكثر عدالة وشمولية
عدالة قاسية لمغتصب طالبة: السجن المؤبد لذئب بشري هزّ العاصمة!
التوحد.. مرآة العدالة الإنسانية
في كل مرة يفتتح فيها مشروع ويقص شريط أحمر وتعلن وزارة عن استكمال بناء طريق أو مستشفى أو مؤسسة يراد لهذا الفعل أن يقدم كدليل على التقدم كإشارة إلى أن البلاد تتحرك وأن "تونس الجديدة" ترسخ وجودها على الأرض، لكن حين ينظر إلى هذا الحراك بعين أكثر تبصرا وأكثر عدلا يتبين أن ما يبنى من الخارج لا يعادل ما يهدم من الداخل.
البناء في جوهره فعل قانوني وسياسي وأخلاقي ليس مجرد حفر أساسات وغرس أعمدة لكنه سؤال عن الغاية عن المآل وعن المنفعة العامة، فالدولة حين تبني فإنها تحدد من يستحق ومن يقصى، ففي اللاوعي السياسي كل مشروع جديد يشيد في جهة دون أخرى هو حكم بالقيمة بجدارة العيش وبأولوية الاهتمام، وهنا تتجلى المفارقة فليس كل ما يبنى عدلا وليس كل ما يشيد تنمية، ففي بعض الأحيان يشيد المشروع ليكون واجهة صامتة تخفي استمرار الفجوة بين الجهات وتعيد إنتاج التفاوت تحت مسمى "الإصلاح".
خذ مثلا التعليم، الدولة تبني المدارس هذا صحيح لكنها تبنيها كثيرا في المدن نادرا في الأرياف، تبني الحجر، لكنها لا تضمن المعلم، تجهز الفصول لكنها لا تحدث المناهج الصائبة، وبهذا فإن ما يقدم كنجاح عمراني يتحول في الواقع إلى قشرة تخفي فشلا معرفيا، فلمدرسة تبنى لكنها لا تحرر والنتيجة أجيال تحاصرها الجدران لكنها لا تجد من يفتح لها النوافذ على الفكر والنقد والحرية.
وفي قطاع الصحة، تتكرر الظاهرة مستشفيات تنجز كن بلا أطباء مختصين، مراكز تدشن لكن بلا أدوية، بنايات تزين المداخل لكن قاعات الانتظار فيها تشبه ممرات الألم أكثر مما تشبه مواطن العناية، والمواطن يرى المبنى لكنه لا يجد من يستقبله أو يسمعه أو يداويه وكأن التشييد هنا لا يستهدف خدمة الناس لكن تهدئتهم بصريا في الوقت الذي تتدهور فيه الخدمات فعليا.
حتى في الاقتصاد، التشييد يبدو فعالا على الورق فقط اتطلاقا من مناطق صناعية، مشاريع فلاحية، بنى تحتية لكن أين النتائج؟ هل انخفضت البطالة؟ هل تراجعت الهجرة الداخلية؟ هل تغيرت ملامح الفقر البنيوي؟ أم أن ما ننجزه هو فقط بنية فوقية تضاف إلى مشهد غير متكامل؟ البناء الذي لا يرفق بمنظومة عدالة جبائية وبخطة دعم للمبادرة وبحماية اجتماعية يظل مشروعا ناقصا، هشا، لا يقنع ولا يقاوم.
في السياسة، يعاد توزيع البناء أيضا تنجز مقرات جديدة، يعلن عن مجالس بلدية محدثة، يحدث تغيير في الهيكلة الإدارية ولكن القرار يظل متمركزا والنفوذ لا يتزحزح والمواطن البسيط لا يشعر بأن له يدا في التغيير، فالتشييد الإداري يزين الدولة لكنه لا يقربها من الناس والمكاتب الفخمة لا تعني شيئا حين يرفض مطلب بسيط لمواطن في عمق البلاد لأنه لم "يتبع التسلسل".
والسؤال هنا ليس مجرد نقد إنما سؤال مشروع حول شرعية الفعل فهل ما نقوم به الآن بناء حقيقي أم هندسة للواجهة؟ هل نشيد فعلا مستقبلا أم فقط نرتب ديكورا يمرر من خلاله خطاب الدولة الجديد؟ لأننا وبكل صدق لا نحتاج إلى مزيد من الجدران بل إلى ما يعادلها من ثقة، عدالة، كفاءة، نزاهة.
فالمواطن التونسي لم يعد يقنعه المشهد البصري، لقد مر بسنوات من الخطب والمشاريع والوعود، اليوم هو يطرح سؤاله بمرارة هل هذه "تونس الجديدة" التي وعد بها؟ أم أن الجديد فقط في الطلاء بينما الأساس نفسه، مائل، هش، مفكك؟
وهل يعقل أن نشيد مستشفى دون أن نصلح منظومة الصحة؟ أو مدرسة دون أن نحرر العقل من سلطة التلقين؟ أو إدارة دون أن نغير الذهنية البيروقراطية؟ أو طريقا دون أن نضمن أن تصل إلى الجهة التي ظلت منسية لعقود؟
إن التشييد الحقيقي إن أردنا له أن يكون صادقا يبدأ من أسئلة كبرى وجوهرية فهل نحن نبني الإنسان قبل أن نبني له؟ هل نشيد ما يحتاجه الناس فعلا أم ما يرضي الصورة الرسمية؟
هل نعطي لكل جهة حقها أم نعيد توزيع التفاوت باسم التنمية؟
هل نخطط للمستقبل أم فقط نهدئ الحاضر بما يشبه الانجازات؟
لبناء الذي لا يحاسب يتحول إلى عبء والتشييد الذي لا يخضع للمراجعة يراكم الأخطاء والمشاريع التي لا تصمم بروح العدالة تنتهي بأن تكون شواهد على فشل الدولة في تمثيل شعبها.
إن تونس، إن أرادت أن تبني فعلا لا وهما عليها أن تشيد لا أن تجمل فعليها أن تراجع مفهومها للبناء ذاته لا كعدد مشاريع لكن كمنظومة أثر، لا كجدران ترفع لكن كجسور ثقة تعاد، لا كدليل على الإنجاز لكن كترجمة دقيقة لعدالة توزع بعدل، لا بميزان القوة أو العلاقات أو النفوذ.
حينذاك فقط، يمكن القول إن تونس تبنى حقا لا بالشعارات ولا بالخرائط إنما بأفعال يرى أثرها في الحياة اليومية، في المدرسة التي تعلم لا فقط تدرس، في المستشفى الذي يداوي لا فقط يدشم، في الطريق الذي يصل المهمش بالقرار، في المؤسسة التي تستقبل المواطن كصاحب حق لا كمتسول خدمة، ذلك هو البناء الحقيقي وما عداه يظل صدى بلا صدى وظلا بلا أساس.