الآثار العربية وروحية لص الحضارة التركي الذي نهبت يداه مدنا كثيرة.
لم تكتف تركيا باحتلال الجغرافيا العربية ونهب خيراتها وإنما امتد جشعها إلى آثار العرب لتواصل ما كانت قد ابتدأته من نهب حضاري طيلة قرون الاحتلال العثماني السوداء، في مسعى منها لانتحال صفة العاصمة الحضارية للعالم الإسلامي، والحال أن الآثار التي تزين متاحفها ملك لغيرها ما يستوجب عليها إرجاع الأمانات والمنهوبات إلى أصحابها العرب الذين تجدر بهم مأسسة منظومة لفضح روحية اللص الحضاري التي لم تتوقف، ووضع مخطط قومي لاستعادة تراثنا المنهوب.
حتى هذه اللحظة، تستعيد أنقرة في إدلب ما أجبرت على التوقف عنه قبل مئة عام.. نهب الآثار العربية، وربما تفعلها غدا في ليبيا.. إن تمكّنت، كما فعلت لثلاثة قرون مع دول مثل مصر، ولأربعة مع الشام والحجاز.
بعد تلكؤ تجاوز القرن، أقر مجلس الشيوخ الأميركي، في الـ13 من ديسمبر الماضي، ما اعتبره مجلس النواب في الـ3 من نوفمبر 2019، إبادة للأرمن ارتكبتها الدولة التركية، ضمن مروحة مجازر لم يسلم منها شعب طاله احتلالها أو غزوها.
ضربة موجعة تلقاها “الساعون لاستعادة الخلافة العثمانية” تارة و”الحالمون بإحياء العالم الطوراني” تارة أخرى و”الواهمون بسموّ العرق التركي” تارة ثالثة. كلها أوجه لعملة زائفة، لم تعرف أبدا غطاء حضاريا يمنحها قيمتها المُدّعاة، كما يغطي الذهب أو احتياطي العملة الصعبة العملات الوطنية.
ضربة موجعة، خلّفها جهد ودأب شعب صغير، مدعوم بشتات صنعه البطش العثماني. لم نتعلم منه كعرب كيف نمأسس “مآسينا” التي أفرزتها “قرون الجهل الثلاثة” كما وصفها عميد الأدب العربي، طه حسين، أو “عهد الانحطاط الفكري” وفق تعبير صاحب العبقريات، عباس العقاد.
“مآسينا” على يد سلاطنة الأستانة لم ترحم مجالا في حياتنا، من حق الحياة والوطن إلى تاريخنا ذاته. فإضافة إلى دموية ثقافة “الخازوق” التي استندت لها حملات الأرمن، للعرب مذابح متنوعة.. طالت حضارتنا و“دماغ” قطاعات منا.
الصدام أساسه “همج”، كما وصفهم ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، مقابل سياق ثقافي جذوره تمتد إلى بدايات التاريخ، تنوعت مكوناته على طول خريطة الأمة.. فأثرته، مبدعا ما عُرف بالحضارة العربية الإسلامية.
عجز حضاري
في كتابه “شروط النهضة” قارن المفكر الجزائري مالك بن نبي بين التجربتين العثمانية واليابانية في عهد “ميجي”. فالأولى لم تع أن الحضارة ليست “جمعا وتكديسا” بل “بناء ذو أسس وقواعد” كما فهمتها الثانية. ويجزم بن نبي أنه “لا يمكن تصور تاريخ بلا ثقافة”، وأن عالم “ما بعد القرن الثاني عشر”، في منطقتنا، “شهد انحطاطا متماديا ومنه الانصراف عن قوة الحضارة إلى القوة العسكرية”. و“تركيا بلا تاريخ أو هوية، قمة الضياع الحضاري، تغيّر جلدها أكثر من مرة، كغراب يقلد مشية الطاووس”، وفق الراحل جمال حمدان، العالم الجيوسياسي العربي، الذي اشتبك مع المسألة التركية في أغلب مؤلفاته. رآها “طفيل حضاري، بلا جذور جغرافية، انتزعت من الأستبس كقوة شيطانية مترحلة، واتخذت لنفسها من الأناضول وطنا بالتبني، بلا حضارة، استعارت حتى كتابتها من العرب”.
عجز حضاري عن البناء، مع قوة عسكرية ولّدت موجات من “التكديس”. كانت صدمة حضارية “عكسية” حين استقدموا كمرتزقة في العهد العباسي، وبعدها حين فرت قبائل منهم من همجية قبائل أخرى منهم في وسط غرب آسيا، أمام “نفائس ما عرفها آباؤهم ولا أجدادهم”، كما مفردات ابن إياس.
وفي كتابه “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان” يرصد المؤرخ الدمشقي المعاصر للغزو العثماني، شمس الدين الصالحي، افتتان “ملك الروم”.. السلطان سليم، بعمارة مساجد وقصور وحمامات عاصمة الشام، حتى أنه خرج منتصف ليلة الـ17 من رمضان 923 هـ إلى المسجد الأموي “ليتأمله” وتفقد نفائسه، خاصة ضريحي النبيين يحيى بن زكريا وهود، والمنارة الشرقية. وبعد خمسة أيام “خرج إلى قبة يلبغا متفرجاً”، ثم إلى منطقة الربوة الأثرية.. و”تفرج بها”.
تذكّرنا علاقة “ملك الروم” بالآثار العربية بـ”حالة” الإسرائيلي، موشي دايان، افتنان ونهب، معا، للخزين الحضاري للأراضي التي احتلها، لا فرق بين فلسطين والجولان وسيناء. سرق آلاف القطع، اقتناها وتاجر في بعضها. وفي السادس من نوفمبر 2015 عرض ورثته في صالة “كريستيز” ما عُرفت بـ”مجموعة موشي دايان”، كلها عربية.
سار “موشي” على “مدقات” اللص العثماني. دخل السلطان سليم القاهرة في الـ26 من يناير 1517، ومكث فيها ثمانية أشهر، بطش خلالها بتنوع علومها وفنونها. رجاله خلعوا رخام قصور قلعة صلاح الدين والأخشاب المزخرفة والبلاط، وعواميد أواوينها السماقية والأسقف المزيكة، وما بها من سيوف ودروع وملابس سلاطين المماليك، ووثائق دولتهم. والآثار النبوية الشريفة التي كانت محفوظة بـ”طوبقو سراى”. وخيمة المولد مقر احتفالات الدولة الدينية، و“كانت حديث الناس في فخامتها وقبتها الشامخة، لم يعمل مثلها أبدا”، كما وثّق ابن اياس.
ننقل عنه “انفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر، نهب القماش والسلاح وكل شيء فاخر”. ومن المدارس والمساجد انتزعوا المصاحف والمخطوطات والمشاكي والكراسي النحاسية والشمعدانات والمنابر، والكتب النفيسة من المدرسة المحمودية والمؤيدية”. جمع سليم “العملات ذات الوزن الكبير من الذهب والفضة، واستبدل بها أوزاناً خفيفة”. ومن البيوت اغتصب رجاله “الأثاث الثمين ونفائس ومجوهرات، خلعوا ألواح الرخام وواجهاتها الخشبية المزخرفة، والشبابيك الحديد والطيقان والأبواب والسقوف”.
وقدر ابن إياس ما نهب من تحف مصرية، تعود لمختلف العصور بـ”حمل أكثر من ألف جمل”.. “نقلت إلى عاصمة ملكه”. وتواصل النهب الحضاري طوال قرون الاحتلال السوداء، فمثلا المخطوطة التي نجت من “حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران” لشهاب الدين بن الحمصي أحمد بن محمد بن عمر الأنصاري، موزعة بين ثلاثة أجزاء في مصر وبريطانيا وتركيا.. والأخيرة تحمل ختم “مكتبة سوهاج” عام 1701.
التجريف البشري الحضاري
كان سليم يعي ما يفعله، يدمّر حضارة. والنهب، على بشاعته، أخفّ ضررا من “التجريف البشري الحضاري” الذي طال النخب الفنية والإدارية والحرفية، أو ما عرفناه فيما بعد بـ”الطبقة الوسطى/الكتلة النشطة”.. كريمة المجتمع، حاملة تراثه وقاطرته.
يتابع ابن إياس أن العثمانيين “طلبوا أعيان قضاة، شافعية ومالكية وحنفية وحنابلة، قادة جيش وشرطة، وكبار رجال دولة، ونصارى من كتاب الخزانة والمباشرين، وتجار الوراقين والشَرب والباسطية وخان الخليلي، وجماعة البردوارية والرسل وطائفة من المصانع ومن البنائين والنجارين والمرخمين والمبلطين والحدادين وغير ذلك من المعلمين، حتى جماعة من اليهود، وعينوا منهم جماعة يسافرون إلى إسطنبول كتبوا أسماءهم في قوائم وألزموا كل منهم بضامن يضمنه”، ومن يرفض يعاقب كما “خوزقة” شيخ البنائين. يرصد رحيلهم يوماً بيوم، معتبرا أنها “من أبشع الوقائع المنكرة التي لم يقع لأهل مصر قط مثلها في الزمان”. حصل لهم “الضرر الشامل وبطلت خمسون صنعة لم تعد تعمل”.
ما حدث للمحروسة تكرر بصورة أقل في باقي الأقطار العربية، وإن ظلت سوريا ضحية لثلاث موجات من النهب، الأولى مع احتلال سليم لها، والثانية مع هزيمة أنقرة في الحرب العالمية الأولى وانسحاب الأتراك حاملين ما عرف بـ”الطمائر الذهبية العثمانية”، والثالثة ما زالت مستمرة، فوفق توثيق اليونسكو تنشط التنظيمات الإرهابية في نهب آثار شمال سوريا ونقله إلى تركيا. وضمن التوثيق أن مواقع إدلب الأثرية تتجاوز الـ400، نصفها تلال أثرية، وأن متحفها أفرغ تماما.
وفي الـ13 من ديسمبر 2019، كشف الأثري السوري، صلاح سينو، المتخصص في رصد تعديات الآثار، لقناة الخبر، عن اختفاء نُصب “الأسد البازلتي الكبير”، المكتشف عام 1956، من تل عين دارة الأثري في مدينة عفرين، مستندا إلى صور جوية سبقت وتلت الاحتلال التركي للشمال السوري، وتحويل “الجبهة الوطنية للتحرير” العميلة لأنقرة، للموقع إلى منطقة عسكرية مغلقة، محذرا من أن النهب العثماني قد طال آثار أخرى.
سرقة الآثار العربية
في المقابل، متاحف تركيا تتباهى بحصاد سرقة تراكمنا الحضاري، الذي يسبق بقرون نشأة دولتها. متحف الآثار الإسلامية، به 45 ألف قطعة غالبيتها لا علاقة لها بالأتراك وأرضهم. فالأناضول كانت مسيحية شرقية حتى بداية القرن الـ13 ميلادي، ضمنها 15 ألف مخطوطة عربية بها أصبحت إسطنبول من مراكز مخطوطاتنا دوليا، وقبلة للباحثين ومعهم عشرات الآلاف من السياح سنويا، “يدفعون” لمشاهدة الآلاف من التحف الخشبية والخزفية والزجاجية والمعدنية.. “العائدة لبلاد العهد العثماني” حسب الدعاية التركية!
تتجاوز معروضات متحف إسطنبول، بأقسامه الثلاثة، المليون قطعة “من معظم العصور والحضارات حول العالم” وفق موقعه. الأول “الأثري” خصص لتراكمات منطقة الأناضول ومحيطها، والثاني “الشرق القديم”.. ومما يتباهى به لوحة مقتطعة من بوابة عشتار البابلية العراقية وتوابيت كنعانية شامية وقطع سورية وفلسطينية. والثالث “الإسلامي” يتفاخر بـ”خزائن عملات إسلامية وغير إسلامية ومكتبة لذخائر المؤلفات العربية”!.
ثالث مجمعات النهب العثماني مقرّها متحف توب كابي، مخصصة لآثار الرسول، سرقها سلاطين الترك طوال قرون الانحطاط، من بغداد ودمشق والقاهرة والمدينتين المقدستين إسلاميا.. مكة ويثرب. درّتها ما اغتصبه السفاح فخرالدين آخر المحتلين العثمان لمدينة النبي فيما سماه “قطار الأمانات المقدسة” 1917، حاملا 390 قطعة نفيسة: مصاحف أثرية، سيوف الصحابة ومفاتيح الكعبة، مجوهرات وشمعدانات ذهبية، لوحات مرصّعة بالألماس، مباخر وغيرها. أقيمها 30 أثرا لخاتم الأنبياء: بُردته، سيفه، خصلة من شعره، مكحلته، نعله، عمامته، عصاته، رايته الحمراء خلال فتح خيبر، خطاباته إلى الملوك، أثر قدمه على حجر.. اغتصب من قبة الصخرة في القدس. وقبلها “المصحف العثماني”، أحد النسخ التي تراوحت بين أربع وسبع، حسب الروايات، وخُطت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت في القاهرة حين احتلها سليم خان، وكان يقسم عليها سلاطنة المماليك وولاتهم وكبار رجال الدولة، وتتباهى الدوحة بحصولها على صورة منه.
أوهام العثمانيين الجدد
مع أضغاث العثمانيين الجدد، واستعادة “الخلافة الوهمية” كما توصيف الكواكبي، أحيا رجب طيب أردوغان “روحية اللص الحضاري”، منتحلا نسب مبتكرات علمية إسلامية لم يجدوها حين احتلالاتهم للأراضي العربية.
في الـ24 من مايو 2008 افتتح “متحف إسطنبول لتاريخ العلوم والتقنية في الإسلام”، وهو مشروع اقترحه وخططه ورعاه أحد أبرز مؤرخي العثمانيين الجدد، فؤاد سزكين، توفي في الـ30 من يونيو 2018 عن 94 عاما. كان تلميذا مباشرا لعدنان مندريس، أول تجارب الإسلاميين في حكم أنقرة، لجأ إلى ألمانيا سنة 1960، وكرمته عواصم عربية بارزة متجاهلة “تطويعه” التاريخ لصالح الرواية العثمانية. المتحف “يُجيّر” كامل التاريخ العلمي الإسلامي لإسطنبول كحاضرة للمسلمين.
بدأ بـ 700 نموذج لاختراعاتنا العلمية، طوال ألف عام، غالبيتها ابتكرها علماؤنا قبل أن تولد فكرة تركيا! ونفذها لحساب أنقرة معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت، الذي عمل به “سزكين”، على أن تضاف نماذج جديدة سنويا. وبالمتحف مئات المخطوطات العلمية لعلماء العرب، أصلية ومستنسخة.
مشروع آخر خطط له سزكين وأردوغان، متحف إسلامي جديد في بورصة، تعهد الثاني بتنفيذه عقب رحيل الأول. من محيط بورصة انطلقت جحافل جده عثمان لتتريك الأناضول. هو يتحرك وفق مخطط منضبط، والطبيعي أن يرتد همجيا حين تعرية لصوصيته، هو وأسلافه. فلم يأت الشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، بجديد حين نقل منتصف ديسمبر 2017 تغريدة لطبيب عراقي تذكّر بسرقة فخرالدين لآثار الرسول. الواقعة موثقة تاريخيا، ودفاع الأتراك بأنها أخذت على سبيل “الأمانة والحماية من الغزاة” حجة سارق ضبط متلبسا، فالأمانات والمنهوبات البديهي أن ترد لأصحابها. و”الغزاة” لم تعرف المدينة منهم عبر تاريخها غير أسلافه، والقوات التي كانت تحاصرها لطرد العثمانيين الذين وصفوا بـ”ألمان الإسلام” منها.. عربية، وحلفاؤها هم من أنقذوا الأستانة من جيوش محمد علي وابنه إبراهيم.
ما أوجع أردوغان هو زخم اكتسبته “الواقعة التاريخية” بإعادة “شخصية مؤثرة دوليا” بثها، ما منحها انتشارا أوسع.. زاده أردوغان “بذكائه”. غير أن من يبحث عن جدل تغريدة “سرقة الأثار النبوية” سيفاجأ بأن “الرواية العثمانية” هي الأكثر انتشارا، خلفها ترويج الجزيرة ودوائرها ومواقع بالعربية تموّلها تركيا. رواية استلبت دماغ مثقفين عرب ما زالوا غرقى في أكذوبة “الخلافة الإسلامية العثمانية”، وان السفاح “نمر إسلامي” دافع عن “مدينة الرسول” أمام “غزو صليبي إنجليزي”. وضمنهم صحافيون، صناع رأي عام، في جرائد ومواقع سياستها التحريرية “مدنية”، وملاكها “علمانيون”. في حين غابت المخطوطات العربية، بعضها لضحايا مباشرين للسفاح.
فقد العثماني الجديد أعصابه أمام تغريدة، فماذا لو مأسسنا منظومة لفضح روحية اللص الحضاري التي لم تتوقف، ولوضع مخطط قومي لاستعادة تراثنا المنهوب. ولنا في الأرمن، الشعب الصغير، وفي شعوب استردت آثارها التي نهبها المستعمر.. أسوة حسنة.
محمد طعيمة
كاتب مصري