الصفحة 2 من 5
عجز حضاري
في كتابه “شروط النهضة” قارن المفكر الجزائري مالك بن نبي بين التجربتين العثمانية واليابانية في عهد “ميجي”. فالأولى لم تع أن الحضارة ليست “جمعا وتكديسا” بل “بناء ذو أسس وقواعد” كما فهمتها الثانية. ويجزم بن نبي أنه “لا يمكن تصور تاريخ بلا ثقافة”، وأن عالم “ما بعد القرن الثاني عشر”، في منطقتنا، “شهد انحطاطا متماديا ومنه الانصراف عن قوة الحضارة إلى القوة العسكرية”. و“تركيا بلا تاريخ أو هوية، قمة الضياع الحضاري، تغيّر جلدها أكثر من مرة، كغراب يقلد مشية الطاووس”، وفق الراحل جمال حمدان، العالم الجيوسياسي العربي، الذي اشتبك مع المسألة التركية في أغلب مؤلفاته. رآها “طفيل حضاري، بلا جذور جغرافية، انتزعت من الأستبس كقوة شيطانية مترحلة، واتخذت لنفسها من الأناضول وطنا بالتبني، بلا حضارة، استعارت حتى كتابتها من العرب”.
عجز حضاري عن البناء، مع قوة عسكرية ولّدت موجات من “التكديس”. كانت صدمة حضارية “عكسية” حين استقدموا كمرتزقة في العهد العباسي، وبعدها حين فرت قبائل منهم من همجية قبائل أخرى منهم في وسط غرب آسيا، أمام “نفائس ما عرفها آباؤهم ولا أجدادهم”، كما مفردات ابن إياس.
وفي كتابه “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان” يرصد المؤرخ الدمشقي المعاصر للغزو العثماني، شمس الدين الصالحي، افتتان “ملك الروم”.. السلطان سليم، بعمارة مساجد وقصور وحمامات عاصمة الشام، حتى أنه خرج منتصف ليلة الـ17 من رمضان 923 هـ إلى المسجد الأموي “ليتأمله” وتفقد نفائسه، خاصة ضريحي النبيين يحيى بن زكريا وهود، والمنارة الشرقية. وبعد خمسة أيام “خرج إلى قبة يلبغا متفرجاً”، ثم إلى منطقة الربوة الأثرية.. و”تفرج بها”.
تذكّرنا علاقة “ملك الروم” بالآثار العربية بـ”حالة” الإسرائيلي، موشي دايان، افتنان ونهب، معا، للخزين الحضاري للأراضي التي احتلها، لا فرق بين فلسطين والجولان وسيناء. سرق آلاف القطع، اقتناها وتاجر في بعضها. وفي السادس من نوفمبر 2015 عرض ورثته في صالة “كريستيز” ما عُرفت بـ”مجموعة موشي دايان”، كلها عربية.
سار “موشي” على “مدقات” اللص العثماني. دخل السلطان سليم القاهرة في الـ26 من يناير 1517، ومكث فيها ثمانية أشهر، بطش خلالها بتنوع علومها وفنونها. رجاله خلعوا رخام قصور قلعة صلاح الدين والأخشاب المزخرفة والبلاط، وعواميد أواوينها السماقية والأسقف المزيكة، وما بها من سيوف ودروع وملابس سلاطين المماليك، ووثائق دولتهم. والآثار النبوية الشريفة التي كانت محفوظة بـ”طوبقو سراى”. وخيمة المولد مقر احتفالات الدولة الدينية، و“كانت حديث الناس في فخامتها وقبتها الشامخة، لم يعمل مثلها أبدا”، كما وثّق ابن اياس.
ننقل عنه “انفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر، نهب القماش والسلاح وكل شيء فاخر”. ومن المدارس والمساجد انتزعوا المصاحف والمخطوطات والمشاكي والكراسي النحاسية والشمعدانات والمنابر، والكتب النفيسة من المدرسة المحمودية والمؤيدية”. جمع سليم “العملات ذات الوزن الكبير من الذهب والفضة، واستبدل بها أوزاناً خفيفة”. ومن البيوت اغتصب رجاله “الأثاث الثمين ونفائس ومجوهرات، خلعوا ألواح الرخام وواجهاتها الخشبية المزخرفة، والشبابيك الحديد والطيقان والأبواب والسقوف”.
وقدر ابن إياس ما نهب من تحف مصرية، تعود لمختلف العصور بـ”حمل أكثر من ألف جمل”.. “نقلت إلى عاصمة ملكه”. وتواصل النهب الحضاري طوال قرون الاحتلال السوداء، فمثلا المخطوطة التي نجت من “حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران” لشهاب الدين بن الحمصي أحمد بن محمد بن عمر الأنصاري، موزعة بين ثلاثة أجزاء في مصر وبريطانيا وتركيا.. والأخيرة تحمل ختم “مكتبة سوهاج” عام 1701.