يمثل مهرجان القديسة مرثا دي ريبارتيمي فرصة لمن نجوا من الموت بأعجوبة لتقديم واجب الشكر لاستمرار البقاء على قيد الحياة.
انتصار رمزي للحياة
في ظهيرة هذا اليوم الصيفي في منطقة غاليثيا الواقعة شمال غربي إسبانيا، يتفرق الجمهور لإتاحة الفرصة لنقل النعوش تجاه الكنيسة، وتسود حالة صمت، لكن الأمور ليست على هذا النحو، فالنعوش لا تحمل جثامين لموتى، وإنما أجساد أحياء.
ويقول ألفونسو بيسادا باراجي، راهب في المنطقة: "إنه رمز لانتصار الحياة على الموت".
ويمثل مهرجان القديسة مرثا دي ريبارتيمي الذي يعقد في شهر يوليو/تموز من كل عام في قرية إيبونيماس الصغيرة فرصة لمن كانوا على وشك الموت، لتقديم واجب الشكر على نجاتهم.
احتفال يعود إلى قرون
يعتقد البعض أن تاريخ المهرجان يعود إلى قرون مضت، لكن أصله لا يزال غامضا. وحسب اعتقاد سائد محليا، فإن طقوس حمل نعوش الناجين من الموت لتقديم واجب الشكر على نجاتهم مارسها في الأصل الوثنيون، ولكن بحلول القرن الثاني عشر ميلاديا، بالتزامن مع حرص الكنيسة الكاثوليكية على التخلص من المعتقدات الوثنية، دُمج هذا التقليد قسرا ضمن الاحتفالات المسيحية.
وتحول من وقتها التقليد، الذي كان مقتصرا على المقاطعة الإسبانية، إلى مهرجان عالمي شهير يحضره الآلاف الذين تكتظ بهم شوارع سانتا مرثا دي ريبارتيمي في كل عام.
وقيل لي: "يأتي الناس الآن من شتى أرجاء العالم ليشهدوا هذا الحدث".
احتفال بالنجاة من الموت
تلعب القديسة مرثا التي ذُكرت للمرة الأولى في إنجيل لوقا، وهي أخت لكل من لعازر ومريم، التي تساوت بحسب التقليد الكاثوليكي مع مريم المجدالية، دورا محدودا فقط في الإنجيل، وهي بحسب التقليد تعد شفيعة الطهاة، والخدم وربات البيوت، وحسب الإنجيل تستمر قصتها في فرنسا حيث كما تقول الأسطورة، ساهمت في قتل تنين مما أكسبها لقب "مرثا المنتصرة".
ويعتقد أن قدرة القديسة مرثا على الانتصار في هذا الموقف هو ما أدى إلى الربط بينها وبين هذا الطقس تحديدا.
يتجمع الناس في كنيسة القديسة مرثا، قبل ظهور النعوش بساعات، ويقام قداس في سرادق ضخم كل نصف ساعة، بينما يقوم أربعة رهبان بطقوس الاعتراف في ساحة الكنيسة.
أما في داخل الكنيسة، فتنتصب إلى جانب المذبح صورة للقديسة مرثا التي ستقود المسيرة، مستقبلة جموع الزوار الراغبين في تمجيدها.
ليست مهمة سهلة
وتعد المناسبة فرصة لرصد قصص عديدة لمن يشغلون مكانهم داخل هذه النعوش، مثل شاب في العشرينيات من عمره من مدريد يرقد بسكينة وهو يستمع للموسيقى بسماعة أذن.
وقال بعد المسيرة : "أفعل ذلك لتقديم واجب الشكر على نجاة جدتي من مرض السرطان"، وكان الشاب قد تعهد مع والده بالمشاركة في المهرجان كل عام، وسافر حوالي 600 كيلومتر من العاصمة الإسبانية للوفاء بوعده.
ويتبادل الأصدقاء والعائلات أدوار حمل النعوش، وليست تلك مهمة سهلة مع حرارة الطقس والوزن الذي يمثله النعش.
وبينما لا يكون السير بالنعوش حول القرية لمسافة طويلة، فإن ما يتخلله من صعود بعض المرتفعات وهبوطها يجعل الجهد ملحوظا.
وفي الوقت الذي تبدأ فيه المسيرة بالهبوط صوب الكنيسة يسود شعور عام بالارتياح.
طرق كثيرة لتقديم الشكر
بعد انتصاف النهار بقليل يزداد نشاط الجمهور، وعند وصول أول نعش إلى بوابات ساحة الكنيسة، يشرع حاملو النعش بالترتيل، وينشدون لحن ترنيمة "القديسة مرثا العذراء، نجمة الشمال، نأتيك بهؤلاء الذين رأوا الموت بأعينهم".
وعلى الرغم من أنه من الأفضل أن يحمل النعوش من هم أكثر التزاما، يختار آخرون طرقا أخرى لإكمال الطريق تمثل في العادة تجاربهم الوشيكة مع الموت.
وهذه سيدة تأتي كل عام لتشارك في المسيرة، وتجثو على ركبتيها، لتقديم الشكر على النجاة من مرض خطير كاد أن يقضي على ساقيها قبل 17 عاما، وقالت لي: "أعود في كل عام لأشكر القديسة مرثا".
أجواء مبهجة
وتتبع النعوش فرقة موسيقية، تؤدي ألحانا حزينة نوعا ما، إلا أن الأجواء تسودها البهجة.
ويعد المهرجان بالنسبة للكثيرين مناسبة للتفاعل الاجتماعي مع الآخرين إلى جانب كونه مناسبة لتقديم الشكر.
وسرعان ما تمتلئ المقاعد الصخرية المنتشرة على تلة صغيرة بجانب الكنيسة بالزوار، بينما يصب البائعون كميات وافرة من النبيذ وتدب الحياة في أكشاك متنوعة لبيع الطعام، ويمتلئ الهواء بروائح اللحم المشوي وطبق "بالبو أفيرا" المفضل في منطقة غاليثيا (ويتكون من أخطبوط مسلوق مع قليل من الفلفل الحلو).
ويظل الشعور بالتماسك الاجتماعي مهما على نحو خاص في هذه المنطقة المعزولة تقليديا، على الرغم من كون هذا الشعور قويا في كل أرجاء إسبانيا تقريبا. وتشهد غاليثيا عملية تحديث سريعة إلا أن إحساس مواطنيها بتقاليدها وأسلوب حياتها يظل راسخا.
وتقول ماريا ديل كارمين، 86 عاما، وتعيش على بعد مسافة قصيرة من الكنيسة: "أحضر إلى هذا المكان كل عام منذ سنوات. كانت الحياة قاسية للغاية هنا في القرية. لكنها أسهل بكثير الآن، لكن من المهم أن نتذكر ما كانت عليه الأحوال في السابق".
احتفال بالحياة وليس بالموت
وعندما تصل المسيرة إلى الكنيسة وتوضع النعوش على الأرض، يمكن للمرء ملاحظة مشاعر مختلفة.
فبينما يبتسم البعض بنوع من النشوة والفوز، ينفجر آخرون بالبكاء. إحدى النساء التي فاتها حضور طقوس العام الماضي بسبب تعرضها لغيبوبة، تترجل من نعش، وما تلبث أن يلتف حولها أفراد عائلتها.
وربما يبدو مهرجان القديسة مرثا دي ريبارتيمي على السطح مخيفا، ومنظر النعوش مقلقا، لكن هذا احتفال حقيقي بالحياة وليس بالموت.
ففي ضوء الصيف الرائع، وفي بهجة ريف غاليثيا، والروائح العطرة التي تملئ المكان، والبسمة التي تعلو وجوه الحضور، من الصعب مخالفة هذه الأجواء. إنها حياة نابضة بالفعل.