لا مجال لإخراج المؤسسة العسكرية التونسية عن حيادها.
منذ أن أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد في الخامس والعشرين من جويلية الماضي تجميد البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، تعالت الأصوات المعارضة لقراراته لتتهمه بمحاولة الانقلاب على الحكم وإقحام المؤسسة العسكرية في أتون المعارك السياسية، بعد أن حافظت لعقود على حيادها.
تونس - ارتكز الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي قرّر تجميد أعمال البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة وتولي السلطة التنفيذية في قراراته على دعم الجيش الذي لطالما بقي بعيدا عن السياسة.
وحضرت مع سعيّد في الاجتماع الطارئ كوادر عليا في الجيش. وإثر قراراته، انتشرت وحدات عسكرية، أمام البرلمان ومقر رئاسة الحكومة ومؤسسات حكومية حيوية أخرى.
كما عيّن الرئيس مسؤولا عاليا في الجيش على رأس غرفة عمليات إدارة الأزمة الصحية.
وفي الأثناء، أوقفت السلطات القضائية أحد النواب الذي وجه له القضاء العسكري في العام 2018 تهمة انتقاد الجيش.
ودفع هذا التقارب بين الطرفين عددا من الخصوم السياسيين للرئيس التونسي إلى توظيف الأحداث لصالحهم ووصف قرارات سعيّد الاستثنائية بأنها “دكتاتورية عسكرية”.
ثقة في التغيير
منذ انتخاب قيس سعيّد رئيسا للبلاد في أكتوبر 2019 بأكثر من 70 في المئة من الأصوات، تحاشى سعيّد مسؤولي الأحزاب السياسية وحرص في المقابل على الظهور إلى جانب قيادات عسكرية عليا.
وكلف سعيّد في ديسمبر الماضي إدارة الصحة العسكرية الإشراف على مستشفى جديد شيّدته الصين في ولاية صفاقس.
ويقول المحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي إن قيس سعيّد “نال ثقة الكوادر العليا في الجيش.. ونجح في إقناعها بأن الدولة أمام خطر داهم”.
ويؤكد الجورشي أن الجيش “خرج قليلا عن تحفظه لكن هذا لا يعني أننا أمام حكم عسكري منذ 25 جويلية”. ويتابع “الجيش لا يحكم وهو يؤطر ويحمي الرئيس ويدعم قراراته من دون أن يكون في الحكم بشكل مباشر”.
ومنذ الخامس والعشرين من جويلية، لم يظهر الجيش التونسي في صورة من يتدخل في القرارات السياسية، لكنه التزم بتطبيق القرارات التنفيذية، ورغم ذلك يظل في نظر الإخوان المسلمين مؤسسة غير مضمونة رغم تاريخها الحيادي والتزامها فقط بمواجهة المخاطر الخارجية التي تهدد أمن البلاد.
ويرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية حاتم مراد أن قيس سعيّد – الذي يواجه تيارات إسلامية تستميت منذ أشهر في عرقلة الحياة السياسية وفرض أجنداتها – “لن يستطيع الفوز دون التعويل على الجيش”.
ويوضح مراد أن الجيش “يدعم إلى الآن الرئيس الذي جهز كل قراراته بفضل مساعدته”، مشددا على أن المؤسسة العسكرية “سترافقه إلى حدود تحقيق الأهداف المرسومة” أي إعادة دولة القانون إلى السكة.
قوة شرعية
لم يكن التفات سعيّد إلى المؤسسة العسكرية وليد الوضع الحالي، بل منذ أبريل الماضي، بعث برسائل إلى خصومه السياسيين مفادها أنه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمنية والعسكرية.
وقدم خلال إشرافه على العيد الـ65 لقوات الأمن الداخلي قراءة مغايرة بصفته أستاذا سابقا للقانون الدستوري، توضح أن ”رئيس الدولة هو الذي يتولى التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية المتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، ويضبط الوظائف العليا بقانون”.
وشدد حينها على أنه “لا يميل إلى احتكار هذه القوات لكن وجب احترام الدستور”. وأثارت تصريحاته الحادة انتقادات المشيشي الذي اعتبرها قراءات فردية وشاذة للنص الدستوري.
ويعتبر العميد المتقاعد من الجيش مختار بن نصر أنه في ظل نظام يكون فيه رئيس الدولة “القائد الأعلى للقوات المسلحة.. يكون الجيش القوة الشرعية بيد الرئيس لحماية الدولة والشعب من كل خطر”.
ورغم ذلك وضع سعيّد مرارا وخاصة خلال الأسبوعين الماضيين من قبل معارضيه في مقارنة مع النظامين المصري والجزائري اللذين يتحكم فيهما الجيش بدواليب الحكم ووجهت له تهم بمحاولة السير بالبلاد تدريجيا نحو دكتاتورية عسكرية.
وترى الخبيرة في معهد البحوث حول المتوسط والشرق الأوسط إينيس لوفالوا أن “الجيش التونسي لن يلعب دورا مثلما كان الأمر في مصر” أو في الجزائر وإلى الآن “تمر الأمور عبر النقاش مع رئيس الجمهورية” الذي انتخب بغالبية واسعة.
ويتهم الجيش في الجزائر بأنه يدير في الكواليس حكما فقد شرعيته أمام حركات احتجاجية شعبية متواصلة في البلاد منذ أكثر من عامين.
وأصبح عبدالفتاح السيسي قائد الجيش رئيسا لمصر في 2013 إثر الإطاحة بالإخوان وإزاحة الرئيس الإسلامي محمد مرسي الذي توفي في السجن في العام 2019.
وبالعودة إلى ما يسمى بثورات الربيع العربي في العام 2011، دعم الجيش المصري نظام حسني مبارك ضد المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية في ساحة التحرير في القاهرة. لكن في تونس التزم الجيش الحياد في تعامله مع المدنيين العزل والتزمت المؤسسة العسكرية بالعمل على إرساء التوازنات في البلاد طوال عقد كامل بحماية المواطنين والممتلكات الخاصة والعامة والوقوف صدا منيعا في وجه العمليات الإرهابية المتفرقة التي شهدتها تونس خلال السنوات الماضية، حتى أنه يعد محل ثقة مطلقة في ذهن جل التونسيين. وتلتجأ إليه السلطات في حال استشعرت إمكانية فقدان السيطرة على التحركات الاحتجاجية التي تخرج للشارع بين فترة وأخرى.
ومن جديد كان الجيش أمام تحدي دور وطني آخر فبعد قرارات قيس سعيد طوّق الجيش مبنى البرلمان، ومنع دخول رئيسه راشد الغنوشي ونوابه، وتولى تأمين مؤسسات الدولة وشوارع البلاد.
وعن ذلك، يقول الصحافي والباحث تييري بريزيون “بخلاف الجزائر ومصر حيث لديه مصالح حيوية لبقاء النظام، فإن الجيش يفضل في الأزمات الحادة دفع السياسيين لفرض استقرار المؤسسات”.
ويذكّر بأن عددا من كوادر الجيش التونسي المتقاعدين وجهوا في مايو الفائت رسالة مفتوحة للرئيس لتقديم تنازلات في خضم تجاذبات وخلافات سياسية حادة بينه وبين الأحزاب التي تتقدمها حركة النهضة الإسلامية، واتخاذ إجراءات تضمن استقرارا سياسيا لتونس في خضم الأزمتين الاقتصادية والصحية.
وقد تفسّر تلك الخطوة وقوف قيادات الجيش مع سعيّد في هذه المرحلة الدقيقة، ملتزما بعقيدته المزروعة فيه منذ انبعاثه في العام 1956 وهي حماية المؤسسات وليس الأشخاص ومتمسكا بانسجامه مع مبادئ ومقوّمات الدولة المدنية.