المثقفون جزء من آلية صنع الصورة للدكتاتور، لكنهم أيضا أهداف سهلة للمنتقدين حالة مؤيدي بوتين اليوم تكشف هذه المفارقات.
تكمن المفارقات الكبرى في اختيارات المثقفين مواقفهم من الدكتاتور. هم الأجدر للتصدي له، لكنهم الأكثر اندفاعا في تمجيده، أو أن يدفعوا الثمن بعد أن يحين موعد سقوطه. موقف المثقفين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يذكرنا بموقف مثقفينا من زعماء عرب سادوا ثم بادوا.
رغم قناعتي المطلقة بأن الإنسان موقف وعدم إيماني بالمواقف الرمادية، خصوصاً تجاه قضايا إنسانية ومصيرية كالتي يعيشها الشعب الأوكراني اليوم بسبب غزو روسيا لبلاده، إلا أنني أرى أنه لا يمكن للمرء أن يكون تماماً مع أو ضد ما قامت به إدارة أوركسترا ميونخ الألمانية مع قائدها المايسترو الروسي فاليري غرغييف، مِن إنهاء لعقده بعد رفضه النأي بنفسه عن فلاديمير بوتين وإدانة غزوه لأوكرانيا. هنالك رأيان متناقضتان بخصوص هذا الموضوع، لكل منهما منطلقاته ومبرراته. الأول يرفض القرار مِن منطلق قناعة عدم الخلط بين الإبداع الفني والثقافي عموماً وبين المواقف السياسية. والثاني يؤيده كونه يرى أن موقف الفنان ضروري، أولاً لأنه يعكس إنسانيته، وثانياً يمثل مثلا أعلى لمن سيتأثرون بموقفه، وثالثاً قد يؤثر موقفه على دائرة صنع القرار ببلاده إذا كان مقرباً منها.
القرب من السلطة
في حالة غرغييف واضح أن الرأيين لا يمكن تجاهلهما، لكن المؤكد هو أن خسارة عالم الموسيقى الكلاسيكية وجمهورها في أوروبا بعدم التعامل مع أحد أعظم قادة الفرق السمفونية كغرغييف، أو مع أعظم مغنية أوبرا بعَصرنا الحالي كآنا نتريبكو، التي أُلغِيَت أغلب حفلاتها في أوروبا وأميركا لنفس السبب، أكبر بكثير من خسارة بوتين بفعل هذا الإجراء، أو ما يتوقع أن تحدثه من ضغط عليه قد يجعله يغيّر قراره، أو من خسارة غرغييف الذي فور عودته إلى بلاده عيِّن قائداً لأوركسترا صالة حفلات سارياديه في موسكو، وبدأ تدريباته معها لإحياء عدد من الحفلات، أهمها رباعية فاغنر، وكأنه يريد أن يوصل من خلالها رسالة إلى الألمان تحديداً. لذا لا أظن أن من اتخذ هذا القرار قد فكر عميقاً بهذه المعادلة ووازن بين كفتيها بهدوء، وإلا ما كان ليتخذه أو كان ليتوصل إلى حل أقل خسارة وأكثر واقعية وتأثيرا، كأن يبدأ بآخرين قد يكون لفعل مقاطعتهم في بوتين أثراً أقوى من فعل مقاطعة غرغييف ونتريبكو.
هنالك الكثير من الشخصيات العامة القريبة من بوتين برغبتها اختياراً، وليس إجباراً. كالمستشار الألماني السابق شرودر، الذي باتت مواقفه عبئاً على السياسة الخارجية الألمانية وعلى حزبه الذي ينتمي إليه المستشار الحالي، والذي احتفل بعيد ميلاده السبعين قبل أعوام مع صديقه بوتين في سان بطرسبرغ، بعد أن توطدت علاقته به خلال فترة توليه للمنصب وتمريره لمشروع أنابيب “نورد ستريم 1” بين البلدين في أسابيع إدارته الأخيرة، ليكافئه بوتين بعدها بتعيينه رئيس مجلس إدارة شركة “روسنفت” الروسية للنفط ولجنة أصحاب الأسهم بشركة “نورد ستريم”، وأخيراً عضوية مجلس إدارة مجموعة “غازبروم” الروسية العملاقة للطاقة، الذي لم تثنه حتى الاستقالة الجماعية لموظفي مكتبه عن موقفه الداعم لبوتين واتهامه أوكرانيا بإثارة المشاكل، في تحدٍ سافر للموقف الحكومي والشعبي الألماني، والذي أكده باستقالته قبل أيام من شركة ألمانية لأن مالكها انتقد غزو بوتين لأوكرانيا، بدل الاستقالة من عضوية الشركات الروسية.
هنالك أيضاً الممثل الأميركي ستيفن سيغال، صديق بوتين الذي أيّد ضَمّه لشبه جزيرة القرم عام 2014، مما دفع كييف لاتخاذ قرار منعه من دخول أوكرانيا، بالمقابل حصل على الجنسية الروسية عام 2016، وعينته موسكو مبعوثاً خاصاً لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، الذي اكتفى عند سؤاله عن رأيه في الأحداث الأخيرة بكلام هلامي قائلاً “أنا أنظر للبلدين كعائلة وأعتقد أن كياناً خارجياً ينفِق لإثارة الخلاف”.
ولا ننسى طبعاً الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو، الذي حصل على الجنسية الروسية عام 2013 كهدية من بوتين، بعد انتقاده لزيادة الضرائب في فرنسا، ونقله لبعض ممتلكاته إلى روسيا، فأهداه بوتين الجنسية، والذي فقد أعصابه بمقابلة تلفزيونية العام الماضي دفاعاً عن بوتين، بعد أن وصفته المذيعة بالدكتاتور، بالإضافة إلى ممثلين آخرين أبرزهم ليوناردو ديكابريو وميكي روركه. بالتالي نقد ومقاطعة هؤلاء، الذين اختاروا صداقة بوتين برغبتهم ولا زالوا يدافعون ليس فقط عن سياساته، بل وحماقاته وجرائمه، أولى من محاسبة مايسترو روسي، من الطبيعي أن تكون ضريبة شهرته عالمياً القرب من السلطة في بلاده، خصوصاً في دولة بوليسية كروسيا. إلا أن هذا لا يعفيه مِن عدم اتخاذ موقف إنساني تبناه عشرات الفنانين الروس غيره، كالمايسترو فاسيلي بيترينكو الذي قدم استقالته من قيادة أوركسترا يفغيني سفتلانوف السمفونية في موسكو، والمايسترو توماس سيندرلنغ الذي استقال من منصبه كمسؤول ثقافي لأوركسترا نوفوسبرسك السمفونية، والمايسترو توغان سوكييف الذي استقال من منصبه كمدير موسيقي لمسرح البولشوي في موسكو، والثلاثة عللوا استقالاتهم باستنكارهم لغزو أوكرانيا، الذي انتقدوه بصراحة وقوة ووضوح.
هذا يعيدنا بالذاكرة إلى ما حدث أو لم يحدث مع شخصيات عامة أخرى، مَرّت بنفس الظروف أو اتخذت نفس المواقف، بعضها قوطِع، وأكثرها غُضّ عنه الطَرف. فما يحدث اليوم مع غرغييف حصل بشكل مشابه مع المايسترو الألماني الأسطورة فورتفينغلر بعد الحرب العالمية الثانية، الذي كان من الموسيقيين القلائل الذين بقوا في ألمانيا خلال حكم هتلر، وكان قائداً لأوركسترا برلين السمفوني، التي كان من ضمن برامجها الموسيقية إقامة الحفلات لعمال المصانع والجنود لرفع المعنويات بحضور هتلر أحياناً. بعد انتهاء الحرب عاش فورتفينغلر عزلة عالمية تمثلت بالإجماع على عدم دعوته لقيادة أيّ أوركسترا في العالم حتى وفاته.
التعامل مع المثقفين
بالمقابل لم يتم التعامل بالمثل مع العشرات من المثقفين والفنانين الذين ربطتهم صداقات مع أعتى الدكتاتوريات، سواء في زمانه أو حتى الأمس القريب، وكانوا يحجّون إليهم سنوياً ليَتَعَبّدوا بمِحرابهم ويستلموا منهم المقسوم ويعودوا إلى بلدانهم أو يجوبوا العالم ليُرَوّجوا لهم على أنهم زعماء أفذاذ ومفكرون عظام، بدءاً من ستالين مروراً بعبدالناصر وتيتو وصدام والقذافي. فستالين سفاح كان ولا يزال آلاف المثقفين اليساريين يعتبرونه زعيما ومفكرا تاريخيا ويكتبون ذلك ويسمِّمون به عقول أجيال متلاحقة دون أن يحاسبهم أحد! عبدالناصر فعل ما فعله بوتين وألعن فقد احتل ثلاث دول هي سوريا واليمن والعراق، اثنتان بطريقة مباشرة والثالثة بطريقة غير مباشرة، لكن مئات المثقفين روّجوا له ولا يزالون كزعيم للأمة! أما تيتو فيكفي أن هوليوود أنتجت له فيلماً أظهره كزعيم تاريخي وَحّد يوغسلافيا ووقف بوجه هتلر، وقام بتمثيل دوره فيه الممثل الأسطورة ريتشارد بيرتون! كذلك صدام وجيوش المثقفين التي كانت تحج إليه لتقديم فروض الولاء، وبعضهم استمروا بفعل ذلك في فترة الحصار، رغم غزوه لجارة شقيقة ورؤيتهم لما فعلته سياسته الحمقاء من موت وخراب، وكانوا يستلمون المقسوم على شكل كوبونات نفط من أموال برنامج النفط مقابل الغذاء، أي من قوت العراقيين الذين كانوا يتباكون عليهم! أما جيوش المثقفين التي حَجّت إلى خيمة القذافي لتُسَبّح بحَمده وتهديه أعمالها، والتي كان يُجزل لها العطاء مالاً ونسخةً من كتابه الأخضر الذي قال بعضهم فيه ما لم يقله مالك في الخمر، فحدث عنها ولا حرج. أما المثقفون الذين كانوا ولا زالوا يتباهون بصداقتهم للدكتاتور الخرف كاسترو فيغطون عين الشمس.
ماذا عن كل هؤلاء؟ هل سيتم التعامل مع الأحياء منهم بنفس الطريقة التي تم التعامل بها مع غرغييف، أو إدانة الأموات منهم اعتبارياً بأثر رجعي؟ أم بطريقة عفا الله عما سلف؟ وسنعمل بمبدأ أن الإنسان موقف من الآن، بعد أن كان هذا المبدأ مُجَمّداً أو مَنسياً لعقود؟ خصوصاً وأنه لا يزال انتقائياً حتى اللحظة! فما حدث مع آنا نتريبكو، لم يحدث مع زوجها يوسف إيفازوف مطرب الأوبرا الأذري، الذي انسحب مرة من حفل غنائي في مدينة دريسدن الألمانية بسبب وجود مغنية السوبرانو الأرمنية روزان مانتاشيان. كما لم يحدث مع راقصة الباليه الروسية أوكرانية المولد سفيتلانا زاخاروفا، التي كانت عضواً بمجلس الدوما عن حزب بوتين عام 2008 وأيّدَت ضَمّه شبه جزيرة القرم، ولا تزال من أقوى مؤيديه على وسائل التواصل الاجتماعي.
غرغييف لم يصبح قريباً من بوتين ومحسوباً عليه بين يوم وليلة، وإدارة أوركسترا ميونخ السمفونية لم تكتشف ذلك مؤخراً حينما أفاقت صباح الخميس الرابع والعشرين من فبراير لتطلب منه تبيان موقفه من بوتين حتى مساء الاثنين الثامن والعشرين من فبراير، بل كانت تعرفه قبل أن تختاره قائداً لها. فغرغييف كان صوتاً مؤثراً خلال الحملة الانتخابية الثالثة لبوتين، وأيّد احتلاله للقرم عام 2014، وقاد أوركسترا مارينسكي الروسية في حفلات مُسَيَسة لخدمة بروباغندا صديقه بوتين، مرة في مدينة تدمر السورية عام 2016، وقبلها أمام البرلمان المُدَمّر لجمهورية أوستيا الجنوبية المستقطعة من جورجيا والمعلنة من جانب روسيا فقط كدولة، بعد أن احتلها جيشها في حرب خاطفة على الإقليم عام 2008. لكنها تغاضت عن كل هذه الحقائق وغيرها لأنها أرادت وقع اسم غرغييف باعتباره أحد أساطين القيادة الموسيقية في عصرنا الحالي، ولأن صديقه بوتين الذي يُحاسب اليوم بسببه كان حينها صديقاً لألمانيا ومستشاريها، يُعَيّن أحدهم مستشاراً له، ويهدي الثانية باقة ورد عملاقة كلما زارته! بالتالي يجب أن يحاسِبوا أنفسهم ويتحملوا تبعات سذاجتها أو سلبياتها التي باتت سِمة غالبة للعقلية المؤسساتية الألمانية منذ عقود، والتي أحَس الألمان الآن بما ألحقته بهم من ضَرر مِن خلال تداعيات الأزمة الحالية التي جعلتهم يفيقون ويُعيدون حساباتهم في الكثير من الأمور.
طبعاً من الواضح والمفهوم أن المجتمع الدولي قد لجأ إلى هذه السياسة للضغط على بوتين، عَلّه يتراجع عن قراره الأرعَن، وتجنّب الدخول في مواجهة عسكرية معه قد تتسبب باندلاع حرب عالمية ثالثة تُدَمِّر المنطقة والعالم. لكن المشكلة تكمن بإدخال الثقافة في الصراعات السياسية بهذا القدر لأول مَرة واستخدامها ورقة ضغط لوقف الحرب، بدلاً من قرقعة السلاح. فهو أمر غير مسبوق، كان يفترض اتّباعه في السابق مع نماذج أخرى من الدكتاتوريين، بعضهم كان أسوأ من بوتين، تسَبّبت حماقاتهم بإشعال حروب وتدمير دول، ولم يتخذ المجتمع الدولي معهم ومع مؤيديهم مثل هذا الإجراء، بل ولا حتى أقل منه. لكن أن تأتي الأمور متأخرة خير مِن ألاّ تأتي أبداً، ونتمنى أن يكون ما حَدث درسا لبوتين ومَن على شاكلته، وأن يتم التعامل مع أمثالهم مستقبلاً بنفس الحزم، وألاّ يكون ما يحدث الآن استثناء، وإلا سيفقد المجتمع الدولي مصداقيته المهزوزة أصلاً أمام شعوب العالم التي بات يُحَرّك نسبة كبيرة من مجتمعاتها، وعي جمعي قطيعي تُشَكِّله بروباغندا تحالف هجين بين الإسلام السياسي واليسار واليمين تقوده روسيا والصين وإيران وذيولها من الدول والجماعات حول العالم، وبات يهدد الأمن والسلام العالمي والعالم الليبرالي الحر ومبادئه الديمقراطية، بل والوجود الإنساني كله بالفناء، إذا لم يتم التعامل معه بحذر وذكاء ودَهاء.
مصطفى القرة داغي
كاتب عراقي