التعامل مع المثقفين
بالمقابل لم يتم التعامل بالمثل مع العشرات من المثقفين والفنانين الذين ربطتهم صداقات مع أعتى الدكتاتوريات، سواء في زمانه أو حتى الأمس القريب، وكانوا يحجّون إليهم سنوياً ليَتَعَبّدوا بمِحرابهم ويستلموا منهم المقسوم ويعودوا إلى بلدانهم أو يجوبوا العالم ليُرَوّجوا لهم على أنهم زعماء أفذاذ ومفكرون عظام، بدءاً من ستالين مروراً بعبدالناصر وتيتو وصدام والقذافي. فستالين سفاح كان ولا يزال آلاف المثقفين اليساريين يعتبرونه زعيما ومفكرا تاريخيا ويكتبون ذلك ويسمِّمون به عقول أجيال متلاحقة دون أن يحاسبهم أحد! عبدالناصر فعل ما فعله بوتين وألعن فقد احتل ثلاث دول هي سوريا واليمن والعراق، اثنتان بطريقة مباشرة والثالثة بطريقة غير مباشرة، لكن مئات المثقفين روّجوا له ولا يزالون كزعيم للأمة! أما تيتو فيكفي أن هوليوود أنتجت له فيلماً أظهره كزعيم تاريخي وَحّد يوغسلافيا ووقف بوجه هتلر، وقام بتمثيل دوره فيه الممثل الأسطورة ريتشارد بيرتون! كذلك صدام وجيوش المثقفين التي كانت تحج إليه لتقديم فروض الولاء، وبعضهم استمروا بفعل ذلك في فترة الحصار، رغم غزوه لجارة شقيقة ورؤيتهم لما فعلته سياسته الحمقاء من موت وخراب، وكانوا يستلمون المقسوم على شكل كوبونات نفط من أموال برنامج النفط مقابل الغذاء، أي من قوت العراقيين الذين كانوا يتباكون عليهم! أما جيوش المثقفين التي حَجّت إلى خيمة القذافي لتُسَبّح بحَمده وتهديه أعمالها، والتي كان يُجزل لها العطاء مالاً ونسخةً من كتابه الأخضر الذي قال بعضهم فيه ما لم يقله مالك في الخمر، فحدث عنها ولا حرج. أما المثقفون الذين كانوا ولا زالوا يتباهون بصداقتهم للدكتاتور الخرف كاسترو فيغطون عين الشمس.
ماذا عن كل هؤلاء؟ هل سيتم التعامل مع الأحياء منهم بنفس الطريقة التي تم التعامل بها مع غرغييف، أو إدانة الأموات منهم اعتبارياً بأثر رجعي؟ أم بطريقة عفا الله عما سلف؟ وسنعمل بمبدأ أن الإنسان موقف من الآن، بعد أن كان هذا المبدأ مُجَمّداً أو مَنسياً لعقود؟ خصوصاً وأنه لا يزال انتقائياً حتى اللحظة! فما حدث مع آنا نتريبكو، لم يحدث مع زوجها يوسف إيفازوف مطرب الأوبرا الأذري، الذي انسحب مرة من حفل غنائي في مدينة دريسدن الألمانية بسبب وجود مغنية السوبرانو الأرمنية روزان مانتاشيان. كما لم يحدث مع راقصة الباليه الروسية أوكرانية المولد سفيتلانا زاخاروفا، التي كانت عضواً بمجلس الدوما عن حزب بوتين عام 2008 وأيّدَت ضَمّه شبه جزيرة القرم، ولا تزال من أقوى مؤيديه على وسائل التواصل الاجتماعي.
غرغييف لم يصبح قريباً من بوتين ومحسوباً عليه بين يوم وليلة، وإدارة أوركسترا ميونخ السمفونية لم تكتشف ذلك مؤخراً حينما أفاقت صباح الخميس الرابع والعشرين من فبراير لتطلب منه تبيان موقفه من بوتين حتى مساء الاثنين الثامن والعشرين من فبراير، بل كانت تعرفه قبل أن تختاره قائداً لها. فغرغييف كان صوتاً مؤثراً خلال الحملة الانتخابية الثالثة لبوتين، وأيّد احتلاله للقرم عام 2014، وقاد أوركسترا مارينسكي الروسية في حفلات مُسَيَسة لخدمة بروباغندا صديقه بوتين، مرة في مدينة تدمر السورية عام 2016، وقبلها أمام البرلمان المُدَمّر لجمهورية أوستيا الجنوبية المستقطعة من جورجيا والمعلنة من جانب روسيا فقط كدولة، بعد أن احتلها جيشها في حرب خاطفة على الإقليم عام 2008. لكنها تغاضت عن كل هذه الحقائق وغيرها لأنها أرادت وقع اسم غرغييف باعتباره أحد أساطين القيادة الموسيقية في عصرنا الحالي، ولأن صديقه بوتين الذي يُحاسب اليوم بسببه كان حينها صديقاً لألمانيا ومستشاريها، يُعَيّن أحدهم مستشاراً له، ويهدي الثانية باقة ورد عملاقة كلما زارته! بالتالي يجب أن يحاسِبوا أنفسهم ويتحملوا تبعات سذاجتها أو سلبياتها التي باتت سِمة غالبة للعقلية المؤسساتية الألمانية منذ عقود، والتي أحَس الألمان الآن بما ألحقته بهم من ضَرر مِن خلال تداعيات الأزمة الحالية التي جعلتهم يفيقون ويُعيدون حساباتهم في الكثير من الأمور.
طبعاً من الواضح والمفهوم أن المجتمع الدولي قد لجأ إلى هذه السياسة للضغط على بوتين، عَلّه يتراجع عن قراره الأرعَن، وتجنّب الدخول في مواجهة عسكرية معه قد تتسبب باندلاع حرب عالمية ثالثة تُدَمِّر المنطقة والعالم. لكن المشكلة تكمن بإدخال الثقافة في الصراعات السياسية بهذا القدر لأول مَرة واستخدامها ورقة ضغط لوقف الحرب، بدلاً من قرقعة السلاح. فهو أمر غير مسبوق، كان يفترض اتّباعه في السابق مع نماذج أخرى من الدكتاتوريين، بعضهم كان أسوأ من بوتين، تسَبّبت حماقاتهم بإشعال حروب وتدمير دول، ولم يتخذ المجتمع الدولي معهم ومع مؤيديهم مثل هذا الإجراء، بل ولا حتى أقل منه. لكن أن تأتي الأمور متأخرة خير مِن ألاّ تأتي أبداً، ونتمنى أن يكون ما حَدث درسا لبوتين ومَن على شاكلته، وأن يتم التعامل مع أمثالهم مستقبلاً بنفس الحزم، وألاّ يكون ما يحدث الآن استثناء، وإلا سيفقد المجتمع الدولي مصداقيته المهزوزة أصلاً أمام شعوب العالم التي بات يُحَرّك نسبة كبيرة من مجتمعاتها، وعي جمعي قطيعي تُشَكِّله بروباغندا تحالف هجين بين الإسلام السياسي واليسار واليمين تقوده روسيا والصين وإيران وذيولها من الدول والجماعات حول العالم، وبات يهدد الأمن والسلام العالمي والعالم الليبرالي الحر ومبادئه الديمقراطية، بل والوجود الإنساني كله بالفناء، إذا لم يتم التعامل معه بحذر وذكاء ودَهاء.
مصطفى القرة داغي
كاتب عراقي