القرب من السلطة
في حالة غرغييف واضح أن الرأيين لا يمكن تجاهلهما، لكن المؤكد هو أن خسارة عالم الموسيقى الكلاسيكية وجمهورها في أوروبا بعدم التعامل مع أحد أعظم قادة الفرق السمفونية كغرغييف، أو مع أعظم مغنية أوبرا بعَصرنا الحالي كآنا نتريبكو، التي أُلغِيَت أغلب حفلاتها في أوروبا وأميركا لنفس السبب، أكبر بكثير من خسارة بوتين بفعل هذا الإجراء، أو ما يتوقع أن تحدثه من ضغط عليه قد يجعله يغيّر قراره، أو من خسارة غرغييف الذي فور عودته إلى بلاده عيِّن قائداً لأوركسترا صالة حفلات سارياديه في موسكو، وبدأ تدريباته معها لإحياء عدد من الحفلات، أهمها رباعية فاغنر، وكأنه يريد أن يوصل من خلالها رسالة إلى الألمان تحديداً. لذا لا أظن أن من اتخذ هذا القرار قد فكر عميقاً بهذه المعادلة ووازن بين كفتيها بهدوء، وإلا ما كان ليتخذه أو كان ليتوصل إلى حل أقل خسارة وأكثر واقعية وتأثيرا، كأن يبدأ بآخرين قد يكون لفعل مقاطعتهم في بوتين أثراً أقوى من فعل مقاطعة غرغييف ونتريبكو.
هنالك الكثير من الشخصيات العامة القريبة من بوتين برغبتها اختياراً، وليس إجباراً. كالمستشار الألماني السابق شرودر، الذي باتت مواقفه عبئاً على السياسة الخارجية الألمانية وعلى حزبه الذي ينتمي إليه المستشار الحالي، والذي احتفل بعيد ميلاده السبعين قبل أعوام مع صديقه بوتين في سان بطرسبرغ، بعد أن توطدت علاقته به خلال فترة توليه للمنصب وتمريره لمشروع أنابيب “نورد ستريم 1” بين البلدين في أسابيع إدارته الأخيرة، ليكافئه بوتين بعدها بتعيينه رئيس مجلس إدارة شركة “روسنفت” الروسية للنفط ولجنة أصحاب الأسهم بشركة “نورد ستريم”، وأخيراً عضوية مجلس إدارة مجموعة “غازبروم” الروسية العملاقة للطاقة، الذي لم تثنه حتى الاستقالة الجماعية لموظفي مكتبه عن موقفه الداعم لبوتين واتهامه أوكرانيا بإثارة المشاكل، في تحدٍ سافر للموقف الحكومي والشعبي الألماني، والذي أكده باستقالته قبل أيام من شركة ألمانية لأن مالكها انتقد غزو بوتين لأوكرانيا، بدل الاستقالة من عضوية الشركات الروسية.
هنالك أيضاً الممثل الأميركي ستيفن سيغال، صديق بوتين الذي أيّد ضَمّه لشبه جزيرة القرم عام 2014، مما دفع كييف لاتخاذ قرار منعه من دخول أوكرانيا، بالمقابل حصل على الجنسية الروسية عام 2016، وعينته موسكو مبعوثاً خاصاً لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، الذي اكتفى عند سؤاله عن رأيه في الأحداث الأخيرة بكلام هلامي قائلاً “أنا أنظر للبلدين كعائلة وأعتقد أن كياناً خارجياً ينفِق لإثارة الخلاف”.
ولا ننسى طبعاً الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو، الذي حصل على الجنسية الروسية عام 2013 كهدية من بوتين، بعد انتقاده لزيادة الضرائب في فرنسا، ونقله لبعض ممتلكاته إلى روسيا، فأهداه بوتين الجنسية، والذي فقد أعصابه بمقابلة تلفزيونية العام الماضي دفاعاً عن بوتين، بعد أن وصفته المذيعة بالدكتاتور، بالإضافة إلى ممثلين آخرين أبرزهم ليوناردو ديكابريو وميكي روركه. بالتالي نقد ومقاطعة هؤلاء، الذين اختاروا صداقة بوتين برغبتهم ولا زالوا يدافعون ليس فقط عن سياساته، بل وحماقاته وجرائمه، أولى من محاسبة مايسترو روسي، من الطبيعي أن تكون ضريبة شهرته عالمياً القرب من السلطة في بلاده، خصوصاً في دولة بوليسية كروسيا. إلا أن هذا لا يعفيه مِن عدم اتخاذ موقف إنساني تبناه عشرات الفنانين الروس غيره، كالمايسترو فاسيلي بيترينكو الذي قدم استقالته من قيادة أوركسترا يفغيني سفتلانوف السمفونية في موسكو، والمايسترو توماس سيندرلنغ الذي استقال من منصبه كمسؤول ثقافي لأوركسترا نوفوسبرسك السمفونية، والمايسترو توغان سوكييف الذي استقال من منصبه كمدير موسيقي لمسرح البولشوي في موسكو، والثلاثة عللوا استقالاتهم باستنكارهم لغزو أوكرانيا، الذي انتقدوه بصراحة وقوة ووضوح.
هذا يعيدنا بالذاكرة إلى ما حدث أو لم يحدث مع شخصيات عامة أخرى، مَرّت بنفس الظروف أو اتخذت نفس المواقف، بعضها قوطِع، وأكثرها غُضّ عنه الطَرف. فما يحدث اليوم مع غرغييف حصل بشكل مشابه مع المايسترو الألماني الأسطورة فورتفينغلر بعد الحرب العالمية الثانية، الذي كان من الموسيقيين القلائل الذين بقوا في ألمانيا خلال حكم هتلر، وكان قائداً لأوركسترا برلين السمفوني، التي كان من ضمن برامجها الموسيقية إقامة الحفلات لعمال المصانع والجنود لرفع المعنويات بحضور هتلر أحياناً. بعد انتهاء الحرب عاش فورتفينغلر عزلة عالمية تمثلت بالإجماع على عدم دعوته لقيادة أيّ أوركسترا في العالم حتى وفاته.