ليس من الغرابة أن تكون الوصفات الاقتصادية المستخدمة في فرنسا هي عينها في تونس وهي الضرائب على الطبقة الشغيلة، واستهداف المتقاعدين في قوت عيشهم.
لا تزال الديمقراطيات الغربية في حاجة ماسّة إلى الأحزاب الكبرى، لتأثيث المشهد السياسي وتحديد الخيارات وتأطير الاستراتيجيات، والماكرونية التي نظّر لها الكثيرون في العالم العربي والغربي باعتبارها نهاية الأحزاب الكلاسيكية ظهر قصورها عن اجتراح الحلول اللازمة عند الأزمات الاجتماعية والسياسية الحادة.
تعيش الماكرونية معضلة هيكلية حادة، فالاعتبار الطبقي بما هي “حركة للتعبير عن الهامشيين عن الفعل السياسي والمهمشين اجتماعيا” سقط في الماء، والاعتبار السياسي بما هي توسط هجين بين وسط اليسار ووسط اليمين ضاع أيضا وتلاشى، والاعتبار الاستراتيجي بما هي دعامة أساسية للاتحاد الأوروبي في زمن سياسات الإلغاء والانغلاق والإقصاء اضمحل لا فقط بخروج بريطانيا، بل أيضا بعصيان الكثير من العواصم الأوروبية لسياسات النادي الأوروبي في قضايا الهجرة الشرعية وغير الشرعية.
وفي زمن تقاطعت فيه الفضائح السياسية والصحافة الاستقصائية مع ضعف البدائل السياسية مع معاناة اليسار من اليساريين والاشتراكيين وأزمة اليمين الجمهوري جرّاء اليمينيين غير الجمهوريين، صعد نجم إيمانويل ماكرون في المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية باعتباره المرشح الأقلّ سوءا من البقية، وفي المرحلة الثانية كالمرشح الأقل انغلاقا والأكثر ديمقراطية من مرشّحة التيار اليميني المتطرّف.
ولولا مرض اليسار العضال من الحكم والمعارضة، وفشل اليمين في المراهنة على الرجل الأقوى، لما كان لهذا الشاب الأربعيني أن يصل إلى سدة الحكم في باريس، أو أن يتقدّم شخصيات وأحزابا سياسية كبرى في مشهد فرنسي متأزم على أكثر من واجهة.
هكذا حدث في فرنسا التي انتخبت بالضدّ والتناقض والبديل عن السائد والموجود فكانت النتيجة رئيسا نصف تكنوقراط نصف سياسي يعالج قضايا الغليان الشعبي بالأرقام والإحصائيات، ويتحدّث مع الأمعاء الخاوية بلغة المؤشرات الصاعدة.
ينتمي ماكرون إلى المدرسة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد، مدرسة “التكنوقراط” الذين يستغلون ضعف الساسة وهوان السياسيين فيؤسسون أحزابا وظيفية لاعتلاء السلطة، وتغريهم تجربة “القرب من السلطة” للانخراط في الحكم.
ينضوي ماكرون صلب المدرسة الليبرالية التي يتبنّاها يوسف الشاهد، مدرسة الاستقالة التدريجية من تحمّل أعباء الوظيفة العمومية والمتقاعدين والتعليم المجاني، مقابل تضخّم الشركات والمبادرات الحرّة، مرة باسم دفع الاستثمار الخاص وأخرى تحت راية استحثاث توطين المستثمرين الأجانب.
صحيح أنّ السياق الاقتصادي العام، متسم بطابع متزايد للدفع نحو اقتصاد السوق واحتكار الشركات العملاقة للمنظومة الاقتصادية ودورتها، وصحيح أيضا أنه لا أحد ينكر الدور المستضعَف للدولة الوطنية في الاستثمار والتنمية، كحقيقة دولية حاكمة، ولكن الصحيح أيضا أنّ إفراد الطبقة المتوسطة بالتفقير والاستهداف بشتى الطرق في سبيل حلّ مشاكل الاقتصادات المحلية فيه الكثير من التجنّي والمجافاة.
لذا ليس من الغرابة أن تكون الوصفات الاقتصادية المستخدمة في فرنسا هي عينها في تونس وهي الضرائب على الطبقة الشغيلة، واستهداف المتقاعدين في قوت عيشهم، وليس من باب المفارقة أن تكون تمظهرات المشاكل الاجتماعية تقريبا هي عينها وهي الضمان الاجتماعي والصحة العمومية والتعليم وغيرها، وليس من باب العجب أن تكون ذات الأطراف الغاضبة من الفاعل الرسمي هي ذاتها، النقابات والحركات الحقوقية والمجتمع المدني.
ليس في الأمر إسقاط جغرافي ولا سياسي على دولتين مختلفتين وسياقين متباينين، بل في الأمر إقرار بأنه كلما كان الفاعل السياسي يتبنّى ذات وجهات النظر ويتصرّف بنفس المنطق والمنطوق والخطاب والأداء، فإنّ النتائج في الغالب تكون عينها بغض النظر عن المجال وإطاره.
على يوسف الشاهد أن ينظر بعمق إلى التحركات الاحتجاجية القائمة في فرنسا وإلى المظاهرات الليلية في الكثير من المدن والمحافظات التونسية، لا فقط لأنّ تونس تعيش على وقع استعصاء سياسي مقيت، بل أيضا لأن مقدمة الاستهداف والاستنزاف ستكون نهايتها الغضب الجارف الذي يزيد منسوبه أسبوعيا.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي