وزارة الثقافة تلغي الموعد مع الكاتب ألبرتو مانغويل متذرعة بتهمة جائرة، والمثقفون ينقذون الموقف بمبادرة مستقلة.
أثارت استضافة الكاتب الكندي ألبرتو مانغويل في تونس، مؤخرا، جدلا واسعا في صفوف المثقفين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بعد إعلان مؤسسة بيت الرواية التي يرأسها ويديرها الكاتب كمال الرياحي، عن عدم تمكنها من تنظيم لقاء مع هذا الكاتب الكبير إثر قرار وزارة الشؤون الثقافية تأجيل هذا الحدث الأدبي المهم، قبل أيام قليلة من موعده، وإحالة ملف تنظيمه على مكتب وزير الشؤون الثقافية في الحكومة المرتقبة. قبل أن يتمكن المثقفون التونسيون من تأمين الحدث بمجهودات خاصة.
أخيرا، وبعد ضجة اهتزت لها الأوساط الثقافية في تونس، واتهمت فيها نخب سياسية بالعرقلة والتعطيل تحت ذرائع واهية تتعلق بالاستحقاق الحكومي، انتظم يوم السبت في المكتبة الوطنية بالعاصمة التونسية اللقاء المرتقب مع الكاتب الأرجنتيني – الكندي ألبرتو مانغويل الملقب بـ”رجل المكتبة”، والذي حاوره الشاعر التونسي آدم فتحي، وسط حضور هام من المثقفين والنقاد وعدد من ممثلي وسائل الإعلام التونسية والأجنبية.
لكن استضافة ألبرتو مانغويل جاءت رغم رفض وزارة الثقافة قبل أيام قليلة من الموعد، رغم موافقتها السابقة.
مثقفون متكاتفون
الحجج التي تستر خلفها وزير الثقافة التونسي في حكومة تصريف الأعمال، محمد زين العابدين، لإعلان رفضه هذا اللقاء الحدث، تبدو -لدى جمهور المثقفين- واهية وخالية من المبررات، تتنصل من المسؤولية وتنزع نحو نوع من الشعبوية الراكضة خلف ركوب موجة محاربة التطبيع التي أطلت برأسها كـ”موضة قديمة” تخلى عنها حتى المتحمسون لها بالأمس القريب، من عرب المشرق والفلسطينيين أنفسهم.
صرحت الباحثة رجاء بن سلامة، مديرة المكتبة الوطنية، بأن تأجيل لقاء مع كبار الشخصيات العالمية على غرار ألبرتو مانغويل، هو بمثابة إلغائه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبارة “تأجيل” في قاموس مصطلحات البيروقراطية الثقافية في تونس، تعني الصيغة الألطف لقرار الرفض والإلغاء، وذلك لكي لا تُتهم الجهة المعنية بالعرقلة والتجاهل وهما الصفتان اللتان طالما عانت منهما النخبة الثقافية في تونس أيام حكم النظام السابق، ولم تختفيا بل زاد الحديث عنهما في عصر الديمقراطية الناشئة واتساع حرية التعبير والاحتجاج.
واستنكرت بن سلامة قرار وزير الثقافة رفض زيارة هذا الكاتب العالمي باسم “مقاطعة التطبيع” مع إسرائيل، مؤكدة أن ألبرتو مانغويل متعاطف مع الشعب الفلسطيني وليست له أية علاقة بسياسة الدولة العبرية، ولكن “هناك صيد في الماء العكر لفرض السيطرة وفرض قرارات اعتباطية لا يمكن قبولها في تونس ما بعد 2011”.
وثمنت بن سلامة اللقاء مع مانغويل، لكونه يعتبر من أحسن من بإمكانهم التحدث عن الكتب فهو عاشق الكتاب والمكتبات، خاصة أنه لا يتحدث فقط عن الأدب وإنما أيضا عن ضيق الروايات، وهو يبقى “مثالا جميلا للمفكر والأديب الحر”.
من جهته صرح كمال الرياحي، مدير بيت الرواية في مدينة الثقافة، بأن قرار وزير الثقافة إلغاء الموعد مع ألبرتو مانغويل، ربما “يتنزل في إطار الاستهتار”، مشيرا إلى أنه “لم يحدث في تاريخ تونس مثل هذا التصرف المتلكئ وغير المسؤول”، وقال إن “هناك عودة بعقلية القمع والدكتاتورية وهذا سابقة في تاريخ تونس”.
وأشار الرياحي، مدير بيت الرواية، النادي الأدبي الأكثر نشاطا في المشهد الثقافي التونسي، والذي يتخذ من أحد أروقة مدينة الثقافة مقرا له، إلى أنه قد تم تهديده من رئيس مكتب الوزير، وتحميله المسؤولية لكونه “جاء برجل ممنوع من دخول تونس”، الأمر الذي استغربه مدير بيت الرواية، مستشهدا بمجموعة مراسلات موثقة، ومؤكدا أن اللقاء كان مبرمجا في مدينة الثقافة منذ مدة، ولكن بعد قرار الوزير بادر عدد من المثقفين التونسيين بالتكفل بزيارة الكاتب ألبرتو، بإمكانياتهم الخاصة، بينما قام الضيف بتقديم المحاضرة بصفة مجانية.
ويشار إلى أن مديرة دار الكتب الوطنية، كهيئة مستقلة، كانت قد أعلنت في ندوة صحافية عن استضافة هذا الكاتب العالمي في قاعة الطاهر الحداد بمقر المكتبة الوطنية تضامنا مع مؤسسة بيت الرواية التي كانت قد التزمت بتنظيم هذا اللقاء بعد سلسلة من المراسلات الموثقة، تكشف موافقة وزارة الشؤون الثقافية على إقامة هذا الحدث الثقافي الهام، قبل تراجعها عن هذه الموافقة أياما قليلة من موعده.
سرير بروكرست
هذا التضامن من دار الكتب الوطنية مع بيت الرواية، يكشف عن شروخ وخلافات بين المسيّس وغير المسيّس في المشهد الثقافي التونسي، أي بين ثقافة محضة يروم أصحابها النشاط تحت سقف الاحتفاء بالإبداع -ولا شيء غير الإبداع- وسياسة ثقافية منشغلة بالحسابات الحزبية والمحاصصات الوزارية.
الاتهام بالتطبيع أصبح بعبعا في تونس، وعصا غليظة يلوح بها نواب محسوبون على التيار العروبي ضد زملاء لهم من الليبراليين والديمقراطيين تحت قبة البرلمان. ويرى عدد كبير من مثقفي تونس أن هذه التهمة الجائرة صارت تشبه قصة سرير بروكرست، التي يظلم فيها صاحب الامتياز السلطوي كل من لم يكن على مقاس سريره فيبتر من أطرافه أو يمددها وفق ما يراه مناسبا لأهوائه ومصالحه.
وتحيلنا مهزلة امتناع وزارة الثقافة التونسية عن استقبال المفكر الأرجنتيني الكندي، بدعوى تعامله مع إسرائيل، إلى ما كان سائدا في سوريا أثناء تسعينات القرن الماضي، إذ احتكر ما يعرف باتحاد الكتاب العرب في دمشق، راية “الذود عن العروبة” وبادر إلى إنشاء مراصد تشبه محاكم التفتيش، وتخوّن كل أصحاب الفكر الحر من الذين يصنعون إبداعا يبتعد عن الشعارات الثورجية، ويرنو إلى قيم إنسانية أكثر رحابة من اجترار ما كان سائدا في الفترتين الناصرية والبعثية.
تزعّم هذه الحملة آنذاك، السوري علي عقلة عرسان، والأردني فخري قعوار، وأصبح الاثنان يضيفان كل يوم أسماء جديدة إلى قائمة “المشتبه بهم” من الكتاب العرب. المضحك المبكي في الأمر أن تلك القائمات السوداء قد شملت خيرة المبدعين العرب بينما اصطف الانتهازيون وضعاف الموهبة إلى جانب عقلة عرسان وقعوار، في مشهد بائس يكرس الوصاية على المثقف، ويعزز سلطة صغار الكتبة في أجهزة المخابرات.
هذه النزعة سرعان ما انحصرت في سوريا ولبنان بعد تطورات إقليمية وضغوطات دولية، ترافقت مع تنامي الوعي لدى جمهور الكتاب والقراء على حد السواء، لكنها اليوم تجد انتعاشا لها في تونس بعد 2011 وتسلل أصحاب الهوى الناصري والبعثي إلى مواقع الضغط والقرار، ونجاحهم في استقطاب مؤيدين بسطاء أو مغفلين، وذلك بعد نفوق النزعة العروبية وإفلاسها في أرضها ومنبتها.
شبح تجريم التطبيع يجعل المتهمين به يحاولون تبرئة أنفسهم عبر مجموعة سرديات تشرح مواقفهم وتعيد التأكيد على معاداتهم للممارسات العنصرية في إسرائيل، فيحيدون عن ذكر مشاريعهم الإبداعية لكي يتحدثوا أمام جمهورهم عن بديهيات إنسانية، وكأنهم في قفص الاتهام.
مانغويل الذي يشاطر مواطنه الكاتب الشهير، الراحل خورخي لويس بورخيس في كون الأدب لا يحمل جنسية ولا يندثر مهما مرت الأزمنة عليه، ويبقى مستمرا في كسر الحدود التي يصنعها العالم، أبدى في لقائه السبت الماضي بجمهور الكتاب والمهتمين، تضامنه مع القضية الفلسطينية قائلا “ونحن بصدد الحديث عن الأدب هناك أطفال يتعرضون للتشرد والإقصاء في العالم مثلما يحدث في فلسطين”. وكان مانغويل قد دعا في وقت سابق، وعندما كان يترأس المكتبة الوطنية بالأرجنتين، إلى إنشاء مكتبة وطنية فلسطينية افتراضية بُغية إثبات وجود الفلسطينيين وتخليد تاريخهم وهويتهم المطموسة.
هل تكفي هذه “الطمأنة” حشود المنادين بتجريم التطبيع في تونس، ليتأكدوا من أن الكاتب الذي اخترقت رواياته وكتاباته كل الحواجز اللغوية، وسافر بأعماله إلى سائر أنحاء العالم، ليس “متصهينا” أم أن في الأمر “عنز ولو طارت” خصوصا عند أولئك المتاجرين بالقضية القومية؟
وهل يقبل المزايدون بالوطنية في تونس بمانغويل، ضيفا مبجلا في بلادهم بعد أن أبدى اعتزازه بالهدية الرمزية التي قدمت له على شكل بيتين من قصيدة “إرادة الحياة” لشاعر تونس أبي القاسم الشابي؟ وكذلك قدم له فريق مؤسسة بيت الرواية مجسدا لشخصية “برق الليل”، إحدى روائع الأدب الخالدة للكاتب التونسي الراحل البشير الخريف.
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي