الهجرة، سواء النظامية أو غير النظامية، تمثل واحدة من أعقد القضايا التي تواجه تونس في العقود الأخيرة، هذه الظاهرة تتجاوز كونها مجرد حركة أفراد من مكان إلى آخر، لتصبح شأنا يحمل في طياته أبعادا إنسانية واقتصادية واجتماعية وأمنية، وهو ما يجعل إدارتها تحديا حقيقيا يفرض نفسه على الدولة التونسية.
مقالات ذات صلة:
الأفارقة في تونس بين أزمة الهجرة واستعادة السيادة الوطنية
هجرة الأطباء في تونس: نزيف الكفاءات أو مؤشّر لانهيار القطاع الصحي؟
تونس في المرتبة الثانية في هجرة الكفاءات: أزمة تهدد المستقبل وضرورة استراتيجية وطنية للحد منها
تونس ليست بمعزل عن الضغوط الجيوسياسية التي تمارسها دول الشمال، وخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي يعمل على تصدير حدوده جنوبا، محولا البلاد إلى "منطقة عازلة" لوقف تدفقات المهاجرين نحو أراضيه، هذه الضغوط تترجم عبر اتفاقيات شراكة تنموية وسياسية تبدو ظاهريا داعمة، لكنها في الحقيقة تحمل تونس أعباء إضافية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فالتمويلات الأوروبية الموجهة إلى مراقبة الحدود أو تعزيز الأجهزة الأمنية تعزز سياسات الأمننة، لكنها لا تقدم حلولا حقيقية لجذور المشكلة.
على المستوى الداخلي، تمثل الهجرة غير النظامية أزمة مركبة، فالشباب التونسي الذي دفعه انسداد الأفق الاقتصادي والاجتماعي يرى في الهجرة طريقا وحيدا لتحقيق طموحاته، رغم المخاطر التي تواجهه، فآلاف من التونسيين يغامرون بحياتهم سنويا لعبور البحر الأبيض المتوسط، بحثا عن فرصة عمل أو حياة كريمة، والأسوأ أن هذه الظاهرة تشمل أيضا القصر الذين يرحلون دون مرافقة عائلاتهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال والعنف في دول الاستقبال.
وفي البلدان الأوروبية، يعاني المهاجرون التونسيون من تحديات جمة، فبدلا من أن تكون تلك الدول ملاذا آمنا، يجد كثير منهم أنفسهم في ظروف معيشية قاسية، محرومين من الحقوق الأساسية، سواء بسبب أوضاعهم القانونية غير المستقرة أو بسبب سياسات الطرد والاحتواء التي تنتهجها تلك الدول، فالأطفال غير المصحوبين، على وجه التحديد، يعانون من أوضاع مأساوية تتراوح بين الإقصاء الاجتماعي والاستغلال في سوق العمل.
وعلى الجانب الآخر، تونس نفسها أصبحت مقصدا للمهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى، ورغم أن هؤلاء المهاجرين يرون في تونس محطة عبور نحو أوروبا، إلا أن الأوضاع المعيشية القاسية وانسداد الطرق أمامهم جعلتهم عالقين في البلاد، فهذه الفئة تعاني من أشكال متعددة من التمييز، والعنف، والحرمان من الخدمات الأساسية، مما يثير تساؤلات حول مدى احترام تونس لالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
لذا، فان إدارة ملف الهجرة في تونس تتطلب رؤية شاملة تجمع بين الأبعاد الإنسانية والأمنية والتنموية،اذ يجب أن تكون هناك استجابة وطنية قائمة على تعزيز سيادة القانون واحترام الكرامة الإنسانية، فغياب إطار قانوني شامل ينظم أوضاع المهاجرين غير النظاميين في تونس يعقد المشكلة أكثر، حيث ينبغي أن تعمل الدولة على وضع قوانين تضمن الحماية القانونية لهذه الفئة، مع توفير آليات للتكامل الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين النظاميين.
علاوة على ذلك، من الضروري إعادة صياغة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، فلا يمكن لتونس أن تستمر في لعب دور الشرطي الحدودي دون مقابل عادل،اذ يجب أن تشمل الشراكة بين تونس وأوروبا برامج تنموية حقيقية تستهدف المناطق الأكثر تصديرا للمهاجرين، مع دعم المشاريع التي تخلق فرص عمل وتحد من دوافع الهجرة القسرية.
ومن جانب آخر، لا يمكن إنكار أهمية معالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية، فهذه الأسباب تبدأ من الداخل التونسي حيث يجب على الحكومة الاستثمار في تحسين البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص العمل، دعم المؤسسات الصغيرة، وتحسين الخدمات الأساسية في المناطق المهمشة هي أولويات لا بد منها للحد من نزيف الهجرة.
وفيما يتعلق بالمهاجرين التونسيين في الخارج، يجب على الدولة أن تضطلع بمسؤوليتها في حماية حقوقهم، من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول المستقبلة تضمن لهم معاملة إنسانية وظروفا معيشية لائقة، كما يجب تعزيز الدور الدبلوماسي التونسي لمتابعة أوضاع التونسيين بالخارج، خاصة القصر الذين يحتاجون إلى حماية مضاعفة.
في النهاية، تبقى الهجرة قضية إنسانية بامتياز، تتطلب معالجة تضع الإنسان وكرامته في قلب السياسات، ونجاح تونس في مواجهة هذا التحدي لن يتحقق إلا من خلال سياسات شاملة تراعي الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، وخاصة تعزيز التعاون الإقليمي والدولي على أسس عادلة ومنصفة، بهذا النهج يمكن لتونس أن تتجاوز أعباء الواقع الحالي، وتصبح نموذجا لإدارة مستدامة وعادلة للهجرة.