دعوات المقاطعة غذّاها غياب ثقافة الانتخاب، وفوز ضعيف للثنائي الحاكم وغياب لافت لليساريين والليبراليين التقليديين.
تونس- أظهرت النتائج الأولية لأول انتخابات محلية في تونس منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي في 2011 أجريت الأحد، تراجع ثقة الناخبين في الأحزاب السياسية حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 33 في المئة بواقع 1796145 ناخبا من بين أكثر من خمسة ملايين مسجلين بدفاتر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وتعدّدت القراءات السياسية للنتائج الأولية المقدمة من قبل هيئة الانتخابات أو بعض شركات سبر الآراء والتي أظهرت فوز حركة النهضة الإسلامية بنسبة 27.2 في المئة من إجمالي الأصوات، فيما حلّت حركة نداء تونس ثانيا بنسبة لم تتخط 22.5 في المئة ولم تحصل بقية الأحزاب والائتلافات الحزبية سوى على 20 في المئة من مجموع أصوات الناخبين.
وبين عبدالحميد الجلاصي، القيادي في حركة النهضة لـ”العرب”، أن “الحركة استفادت من تجربتها في الحكم ومن خلاصات حملاتها الانتخابية السابقة”. وأضاف الجلاصي أن “نسبة المقاطعة يجب أن تشغل الجميع”.
وقال إن “الجسم الانتخابي في تونس مقسم إلى قسمين: قسم محافظ وتمثله حركة النهضة وحافظ عموما على استقراره النسبي. وقسم ينتسب إلى الحداثة ويجد صعوبة في إيجاد ممثل مستقر… لكن الديمقراطية التونسية تتقدم بالاستقرار في الفضاءين. نداء تونس واجه في هذه الانتخابات استحقاق الإنجاز عكس ما كان عليه الأمر سنة 2014. ونأمل أن يستخلص الجميع الدروس من ضعف نسبة المشاركة والدروس الخاصة بكل حزب من الأحزاب”.
في المقابل، يقول فريد العليبي، المحلل السياسي التونسي، إنه ينبغي الحديث عن فوز النهضة بحذر. وإذا قارنا ما حصلت عليه الحركة في الانتخابات التشريعية وما حصلت عليه في البلدية نلاحظ أنها خسرت حوالي نصف مليون ناخب، ومن هنا فإن المقاطعة لم تكن في صالحها بل بالعكس كانت ضدها وضد نداء تونس.
تقدم المستقلين
تضاربت المواقف حول النسب التي حققتها القوائم المستقلة، حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن المستقلين حلّوا، بخلاف ما تم تقديمه، في المرتبة الأولى قبل حزبي النهضة ونداء تونس بنسبة 28 في المئة. واكتسحت القوائم المستقلة المقدر عددها بـ 897 قائمة وفق التقديرات الأولية الانتخابات في العديد من الدوائر البلدية بمختلف المحافظات والمناطق الداخلية وحتى في بعض الدوائر المهمة المتاخمة للعاصمة مثل بلدية المرسى التي حققت فيها قائمتا “المرسى تتبدلّ (تتغير)” و”عيون المرسى” فوزا كبيرا بحصدهما 18 مقعدا من مجموع 30 مقعدا.
واعتبر مراقبون أن عزوف الناخبين عن المشاركة في أول استحقاق بلدي منذ ثورة 2011 من جهة، ونجاح القوائم المستقلة من جهة ثانية كانا بمثابة الصفعة المدوية للأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة التي فقدت مصداقيتها بعد انتخابات 2014 لدى أغلبية الرأي العام، وعكسا توجها شعبيا كان يمكن أن يصنع الفارق لولا عملية المقاطعة.
وقال معز بوراوي، رئيس قائمة انتخابية مستقلة، هي “عيون المرسى”، والتي فازت بـ8 مقاعد لـ”العرب”، “لقد أثبتت أول انتخابات بلدية في البلاد منذ ثماني سنوات أن التونسيين فقدوا ثقتهم في الطبقة السياسية برمتها وخاصة تلك التي أمسكت بمقاليد الحكم منذ انتخابات 2014”.
وأكّد بوراوي أنه على ضوء النتائج والتقديرات الأولية فإن البلاد مهدّدة بعزوف أكثر عن الطبقة السياسية قبل عام فقط من استحقاقات انتخابية تشريعية ورئاسية ستجرى في 2019.
وقال إن القوائم المستقلة أنقذت الموقف وساهمت في الرفع من النسبة العامة للمشاركة في الانتخابات البلدية، لافتا إلى أنه لو لم تترشّح القوائم المستقلة بكثافة لما تجاوزت نسبة المشاركة 20 في المئة. ودعا كل الأحزاب السياسية إلى وجوب الوقوف على حقيقة النتائج ومحاولة تقييمها بموضوعية بدل التسابق نحو الإعلان عن فوز منقوص، بحسب قوله.
ولم تكن النتائج مفاجئة على ضوء العزوف أو الضربة الكبرى التي تلقتها الطبقة السياسية في انتخابات جزئية تشريعية سابقة بدائرة ألمانيا في أواخر عام 2017 والتي لم تبلغ نسبة المشاركة فيها سوى 5.5 في المئة.
ويرجع محللون عزوف الناخبين وعدم تصويتهم للأحزاب السياسية بكثافة إلى فشل الائتلاف الحاكم في تلبية تطلعات الشعب عقب انتخابات 2014، وأيضا إلى غياب صوت الأحزاب المعارضة التقليدية اليسارية، وأيضا الليبرالية، التي انهمكت في مشاكلها، وعولت على مخزون سياسي قديم لم تنتبه إلى انتهاء تاريخ صلاحيته. وأدى هذا الواقع السياسي إلى شعور التونسيين بإحباط كبير خصوصا مع مزيد تأزم الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.
وقالت سعاد عبدالرحيم، الفائزة عن حركة النهضة في دائرة بلدية تونس والمرشّحة لأن تكون أول رئيس بلدية منتخب في العاصمة، أو ما يعرف في تونس بـ”شيخ المدينة” لـ”العرب”، “لقد حان الوقت لكل الأحزاب أن تراجع خياراتها وتوجهاتها وحتى خطاباتها”، مؤكّدة أن ما حققته القوائم المستقلة في الانتخابات البلدية كان بمثابة ناقوس الخطر الذي ينذر بمزيد هجر التونسيين عالم السياسة أو المشاركة في الشأن العام.
وأكّدت وجوب أن تقرأ الأحزاب السياسية نتائج الانتخابات بطريقة معاكسة ومغايرة، أي وقوف كل حزب على مدى فقدانه لخزانه الانتخابي منذ انتخابات 2011 وصولا إلى أول انتخابات محلية في 2018.
وشدّدت على أن حصيلة الحكومات والأنظمة والأحزاب المتعاقبة على حكم البلاد منذ الثورة كان لها دور كبير في جعل المواطن لا يثق في الأحزاب ولا في السياسيين بسبب عدم تنفيذ الكثير من الوعود الانتخابية التي قدّمت في استحقاقات سابقة.
وفي ضوء التقديرات الأولية فقدت حركة النهضة على سبيل المثال قرابة 500 ألف ناخب من خزانها مقارنة بعام 2014، فيما فقد شريكها في الائتلاف الحاكم نداء تونس ما يقارب ثلثي خزانه الانتخابي مقارنة بالانتخابات التشريعية أو الرئاسية الماضية. ولم يكن نجاح القوائم المستقلة وفق الملاحظين ضربة موجهة فقط للأحزاب الممثلة في الحكم فحسب، بل كان بمثابة الرجة أو الزلزال الذي أثبت حقيقة فشل أحزاب المعارضة التي قدّمت نفسها طيلة ثلاث سنوات كبديل للائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب نداء تونس وحركة النهضة الإسلامية.
وفشلت أحزاب الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية) وحراك تونس الإرادة؛ يتزعمه الرئيس السابق المنصف المرزوقي، والاتحاد المدني المكون من 11 حزبا، على منافسة حزبي الحكم نداء تونس والنهضة والقوائم الانتخابية المستقلة، فيما حقّق حزب التيار الديمقراطي الفتي وفق التقديرات الأولية قفزة نوعية بنجاحه في احتلال المراتب الأولى في العشرات من الدوائر البلدية.
وقال الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي، غازي الشواشي، إنه لا يعتبر فوز المئات من القوائم المستقلة في عدد من الدوائر الموزعة على مختلف محافظات البلاد شيئا مفاجئا على اعتبار أن الانتخابات البلدية تختلف في فحواها عن الاستحقاقات التشريعية والرئاسية. وأكّد أن التونسيين ورغم ضعف إقبالهم على صناديق الاقتراع خلال الانتخابات البلدية كانوا يدركون حين صوتوا للقوائم المستقلة أن الاستحقاق ليس سياسيا بقدر ما يهم حاجاتهم الحياتية اليومية من قبيل الخدمات أو البنى التحتية أو المشاريع التنموية وهو ما دفعهم إلى المراهنة على قوائم مستقلة ومواطنية.
غضب من الطبقة السياسية
بيّن الشواشي أن كل القوائم المستقلة التي نجحت في الظفر بمقاعد في المجالس البلدية لا تخلو من بعض الانتماءات السياسية، مؤكدا وجود بعض القائمات المستقلة المسنودة من عدة توجهات وأحزاب سياسية. واعتبر أن النتائج الأولية للانتخابات أكّدت بعض الإيجابيات، منها إدراك أغلبية التونسيين لزيف وعود حزبي الحكم نداء تونس والنهضة ولذلك صوتوا بكثافة لبعض الأحزاب المعارضة التي يثقون فيها مثل التيار الديمقراطي، حسب تعبيره.
وعلى ضوء النتائج والتقديرات الأولية المصّرح بها فإن الخارطة السياسية لم تتغيّر كثيرا مقارنة بالانتخابات التشريعية والرئاسية في العام 2014، حيث حقّقت كل الأحزاب حكما ومعارضة نتائج منطقية في معاقلها التاريخية، فحركة النهضة وحراك تونس الإرادة واصلا على سبيل المثال حصد نجاحات في أغلب مناطق الجنوب، فيما حقّقت الجبهة الشعبية نجاحا نسبيا في بعض المناطق المحسوبة على اليسار التونسي في محافظات قفصة، (الجنوب الغربي) وسيدي بوزيد (وسط) وسليانة (الشمال الغربي) وصفاقس (وسط). أما حزب نداء تونس ورغم فشله في الفوز بالمرتبة الأولى فقد حافظ على نفس النجاح تقريبا في مختلف أنحاء البلاد المحسوبة عليه وخاصة في مناطق جهة الساحل أو تونس الكبرى.
وقال عمار عمروسية، النائب بالبرلمان والقيادي بالجبهة الشعبية، “لا يزعجنا كسياسيين فوز القوائم المستقلة بقدر ما يزعجنا نجاح البعض في إقناع الرأي العام بأن الطبقة السياسية برمتها متخندقة في مستنفع واحد مع أحزاب الحكم”.
وأوضح أن “نتائج الانتخابات جاءت مخيبة للآمال بسبب فشل حزبي الحكم نداء تونس وحركة النهضة في إدارة الحكم وفي تلبية تطلعات الشعب طيلة ثلاث سنوات حكما فيها البلاد بتوافق مغشوش”.
وأكّد وجود اختلاف في القراءات السياسية لنتائج الانتخابات، مستغربا مقارنة نتائج أحزاب المعارضة التي لم تترشح في كل الدوائر بنداء تونس والنهضة اللذين قدّما مرشحين في كل المناطق وبـ350 دائرة انتخابية.
وحمّل النائب بالبرلمان المسؤولية للهيئة المستقلة للانتخابات بقوله إنها تغاضت وأغلقت أعين أعوانها حيال العديد من الخروقات والتجاوزات التي أقدمت عليها خصوصا أحزاب الحكم.
وقال إن الهيئة فشلت في تنظيم الانتخابات بالشكل الكافي، واصفا تأجيل الانتخابات في بلدية المظيلة التابعة لمحافظة قفصة بـ”المهزلة”.
وكان رئيس هيئة الانتخابات محمد التليلي منصري أعلن تأجيل الانتخابات في مراكز اقتراع بمنطقة المظيلة، التي شهدت في السنوات الأخيرة توترات شعبية واحتجاجات كبيرة باعتبارها من أبرز مناطق الحوض المنجمي، وأوضح أنّ التأجيل جاء بسبب خطأ جدّ في مراكز الاقتراع بالمظيلة، تمثل في إرسال بطاقات التصويت التابعة لدائرة قفصة إلى دائرة المظيلة والعكس صحيح، وأنه تم تداركه في وقت وجيز وكان بالإمكان استئناف عملية الاقتراع، لكن استياء وتشنج المواطنين بالمراكز المذكورة ورفضهم القيام بالاقتراع بسبب هذا الخطأ استوجب تأجيلها.
وقبل عام ونصف العام تقريبا على موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية 2019 يجمع الكثير من المتابعين للشأن السياسي التونسي على أن مرد توجه المواطنين لمنح ثقتهم بكثافة خلال الانتخابات للمستقلين هو عجز ساسة البلاد طيلة ثماني سنوات عن تنفيذ أهم مطالب ثورة يناير 2011 المتلخّصة أساسا في ثنائيتي الخبز والكرامة إلى جانب تآكل الزعامات والنخب والطبقة السياسية التي وجدت نفسها عاجزة عن الخلق والابتكار أو تطوير الخطاب.