اختر لغتك

في متاهة المعنى حين تتقوض القيم وتغترب الذات

في متاهة المعنى حين تتقوض القيم وتغترب الذات

تعيش تونس في مرحلة مفصلية حيث تتصاعد أسئلة عميقة عن معاني القيم التي شكلت أساس وجودها كدولة حديثة، بين الواقع الذي يعيشه المواطن في الحياة اليومية وما يرفع من شعارات رنانة في الأروقة السياسية والإعلامية تبدو الفجوة واسعة وكأن ما هو مكتوب على الورق لا يتجاوز كونه مجرد وعد بعيد المنال، فهل نحن في زمن ما بعد المبادئ؟ أم أن القيم التي لطالما كانت نبراسا للجماعات أصبحت بلا روح في عصر يتسارع فيه التغيير؟ وما هو السبيل لملء الفراغ الذي تعيشه البلاد بين الواقع المعيش والمتوقع؟

إن الأزمة التي تمر بها تونس ليست أزمة عرضية أو طارئة لكنها أزمة هيكلية عميقة تتغلغل في كيان الدولة والمجتمع على حد سواء، فإرث الحرية والعدالة والمساواة الذي بدأ مع الاستقلال ورغم أنه شكل منطلقا لبناء الدولة الحديثة أصبح اليوم في اختبار حقيقي، فأية عدالة تلك التي تمزقها الانقسامات الداخلية؟ وأية حرية تلك التي تتراجع أمام الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب؟ وأية مساواة يمكن أن تكون متحققة في ظل هذا التفاوت الطبقي الذي يزداد يومًا بعد يوم؟

إذا نظرنا إلى مسار تونس منذ الاستقلال حتى الآن نجد أننا أمام دولة نشأت من خلال صراع طويل ضد الاستعمار، صراع أسس لمبادئ الثورة التي تتجسد في الحرية والعدالة والمساواة، ولكن مع مرور الزمن أصبحت هذه المبادئ في حاجة إلى إعادة تفسير وتطبيق يتماشى مع التحديات المستمرة التي تطرأ على المجتمع، فلقد أثبتت التجربة التونسية أن المبادئ التي شكلت الأسس الدستورية والقانونية للبلاد لا يمكن أن تكون مجرد نصوص على ورق إذا لم تكن مشبعة بروح حقيقية تجعل منها واقعا معاشا فهي تظل عرضة للتفكيك والتشويه في غياب مشروع وطني يعيد ربط الإنسان بمحيطه السياسي والاجتماعي.

ومع تسارع التحولات التي شهدتها تونس بعد الثورة أصبح من الواضح أن ما كان يعتقد أنه قد تحقق من قيم ومبادئ بدأ في التلاشي، ففي غياب الاستقرار السياسي بدأ المواطن يشعر بأن هذه المبادئ لا تمسه مباشرة لكن أصبحت مجرد شعارات يتم ترديدها في المناسبات بينما يحتفظ بها بعيدا عن حياته اليومية، فالتحديات التي تواجه تونس اليوم لا تتعلق فقط بتحقيق الديمقراطية الحقيقة والعدالة الإجتماعية ولكن بالقدرة على خلق مجتمع تكون فيه القيم الحقيقية هي من تحكم وليس المصالح الضيقة أو الانقسامات التي تضع العراقيل أمام تقدم الدولة.

ليظل الفرد التونسي الذي طالما كان يحلم بأن تعكس الدولة قيمها في أفعالها يجد نفسه اليوم أمام حالة من الانفصام بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش، فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد تفرض تساؤلات كبيرة حول جدوى تلك المبادئ في واقع لا يستطيع أن يحقق العدالة والمساواة التي تضمن للفرد كرامته وحريته، وفي هذا السياق يتحول الحديث عن العدالة إلى مجرد فكرة سابحة في بحر من الوعود التي لا يمكن لمسها ويغدو الحديث عن الحرية مجرد كلام يقال في المنابر بعيدا عن قيود الواقع الذي يضيق على المواطنين في حياتهم اليومية.

ولا شك أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد قد أضافت عبئا ثقيلا على فهم التونسيين للقيم التي لطالما آمنوا بها، فقد باتت هذه القيم التي ارتبطت بتاريخ نضالي طويل في صراع مع واقعية اقتصادية مرة، فالبطالة التي تضرب الشباب والفقر الذي يزداد في الأرياف والهجرة غير الشرعية التي تزداد أعدادها كل يوم والجريمة التى باتت روتين يومي تعكس حالة من الإحباط والتشاؤم تجاه مؤسسات الدولة وقدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي مثل هذا الواقع يصبح الفرد في مواجهة مباشرة مع تحدياته اليومية حيث تتضاءل أهمية القيم الكبرى أمام معركة البقاء وفي هذه الظروف يصعب على المواطن أن يرى كيف يمكن لمبادئ مثل الحرية والمساواة أن تكون واقعية في ظل مجتمع لا يوفر له الحد الأدنى من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية.

ورغم كل ذلك، فإن المجتمع التونسي لا يزال يحمل بين طياته إمكانية إعادة الإحياء لتلك القيم التي تأسس عليها ولكن هذا الأمر يتطلب أكثر من مجرد استعادة شعارات ثورية ولكنه  بحاجة إلى إعادة تفسيرها بما يتماشى مع الحاجات الراهنة، هذا التفسير يجب أن يبدأ من الفرد نفسه الذي يجب أن يعي أن القيم لا تقتصر على نصوص بل هي تجسيد يومي في كل فعل يتخذ من المبادئ مرشدا له، وإذا كانت الدولة هي الأداة التي تحقق هذه المبادئ على الأرض فإن المواطن هو القوة الفاعلة في تجسيدها في كل لحظة من حياته.

ولعل هذا الصراع بين المثال والواقع، بين المثالية الحاضرة في النصوص وبين الواقع الممزق والمتناقض هو ما يجعل الأزمة التي تعيشها تونس اليوم أزمة مستمرة في البحث عن إجابات حقيقية وليس الحل في الهروب من مواجهة هذه التحديات إنما في السعي الجاد لإيجاد طرق جديدة للعيش مع هذه القيم في ظل الواقع المعاش، اذ إن بناء مجتمع يحقق العدالة الاجتماعية لا يكون من خلال العودة إلى الماضي أو استنساخ تجارب أخرى ولكن من خلال إعادة التأصيل للمبادئ في سياق جديد يتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها الفرد في الزمن المعاصر.

وتونس اليوم أمام مفترق طرق ولا يمكن أن تخرج من أزمتها إلا إذا استطاعت أن تنقلب القيم إلى أفعال حقيقية على الأرض، هذا التحول يتطلب إرادة جماعية ترفع الإنسان التونسي إلى مستوى المعادلة التي لا تفرغ القيم من محتواها بل تجعلها نقطة ارتكاز لبناء مجتمع قوي وقادر على مواجهة تحديات العصر.

آخر الأخبار

ضياع الشرف الكروي: فضيحة تُسقط القناع عن تواطؤ فجّ في مباراة الأولمبي الباجي والترجي

ضياع الشرف الكروي: فضيحة تُسقط القناع عن تواطؤ فجّ في مباراة الأولمبي الباجي والترجي

تشابي ألونسو يعود إلى البيت الملكي: توقيع لثلاث سنوات مع ريال مدريد

تشابي ألونسو يعود إلى البيت الملكي: توقيع لثلاث سنوات مع ريال مدريد

حين يصبح المكان مرآة للروح

حين يصبح المكان مرآة للروح

في متاهة المعنى حين تتقوض القيم وتغترب الذات

في متاهة المعنى حين تتقوض القيم وتغترب الذات

عين دراهم تحتفي بسينما الجبل في دورتها السادسة: إبداع... حوار... ووفاء للذاكرة

عين دراهم تحتفي بسينما الجبل في دورتها السادسة: إبداع... حوار... ووفاء للذاكرة

Please publish modules in offcanvas position.