في البدء لم تكن الأرض ملوثة ولا الجدران رمادية ولا الهواء مثقلا بروائح النسيان، كان المكان امتدادا للنفس والمحيط مرآة لما في الداخل ولعل الإنسان في جوهره الأول لم يفصل بين ما يراه خارجا عنه وما يعيشه في صميم ذاته، فالشارع ليس مجرد ممر ولكنه عبور متواصل للروح والمدرسة ليست فقط جدرانا وسبورة ولكنها محراب الطفولة ومساحة ينقش فيها المعنى الأول للكرامة والمستشفى ليس بناء تقنيا لكنه لحظة هشاشة يختبر فيها الحضور الإنساني في أصفى حالاته.
لكن شيئا ما تغير، تغير ببطء دون أن يحدث جلبة تشوش الإدراك وانفصل الإنسان عن محيطه، لم يعد يرى المكان كامتداد له بل كشيء مفروض عليه غريب ومكتظ بما لا يطيق، وهكذا بدأت المسافة تتسع بين الجسد والجدار، بين القدم والأرض، بين الطفل والمقعد، بين المريض والسرير، بين العين والمشهد ومع هذه المسافة ولد الصمت، صمت ليس سلاما بل خمولا، انسحابا، قبولا تدريجيا بأن القبح ممكن وأن التكيّف معه لا يعد خيانة.
لكن هل القذارة مجرد غبار؟ هل هي فقط نفايات على الرصيف أو بقع على جدران الحمامات أو روائح كريهة في ممرات المستشفيات؟ أم أنها علامة؟ أثر؟ أو لنقل لغة صامتة تخبرنا عن عمق الارتباك في العلاقة بين الإنسان والمكان؟ لأن ما لا ننتبه إليه هو أن كل زاوية متسخة، كل قاعة مهملة، كل طريق مملوءة بما لا يحتمل تدرسنا بصمت دروسا عن قيمتنا، عن حدودنا، عن توقعاتنا من الحياة.
الطفل حين يدخل إلى مدرسة غارقة في الإهمال لا يدرس فقط الأرقام والحروف لكنه يقرأ في كل بقعة، في كل كسر في الجدار، في كل عتمة في زاوية الفصل رسالة تقول له وجودك لا يحدث فرقا، أنت هنا لكن دون أثر وأخطر ما في هذه الرسالة أنها لا تقال بل تشعر، تتسلل إلى الداخل، تترسب في الوعي ثم تعيد تشكيل نظرته لذاته وللعالم.
والرجل حين يصاب بمرض ويقاد إلى مستشفى لا يحمل من العناية سوى اسمها يترك ليتأمل في سقف متشقق، في سرير يئنّ من قدمه، في صمت الممرّات الثقيلة، يدرك شيئا لا يقال الألم هنا لا يعاش فقط في الجسد لكن في البيئة التي تحيط به والتي تضاعف الإحساس بالضعف لا لتخففه.
والأم حين تمر في طريق مهمل تحمل طفلها وهي تقفز بين الحفر لا تشعر فقط بإرهاق الحمل لكن بمفارقة كبرى كيف يمكن لحياة جديدة أن تبدأ من وسط كل هذا التفتت؟ كيف يمكن للمستقبل أن يبنى في مكان لم يعد يحتضن حتى الخطوات الأولى؟
ليست النظافة رفاها ولا تحسينا للمشهد ولا مسألة تقنية، هي طريقة تفكير، نمط وعي بل ربما شكل من أشكال الحب، حين نحب شيئت نعتني به وعندما نعرض عن العناية، فإن هذا الإعراض لا ينبع من الكسل فقط لكن من فقدان الشعور بقيمة الشيء والنظافة في جوهرها ليست إزالة لما هو زائد ولكنها حماية لما هو أصيل، فهب فن الاعتراف اعتراف بالمكان، بالذات، بالآخر.
وهنا تنشأ المفارقة الكبرى فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في الفوضى دون أن تتسرب إلى داخله، وما حولنا ينعكس فينا دون أن نشعر زحين نجلس طويلا في بيئة مهملة نبدأ دون وعي في تخفيض توقعاتنا في كبح رغباتنا، في إعادة تعريف ما نعتقد أننا نستحقه والبيئة تعلم لا بالكلمات ولكن بالإحساس الذي تخلفه وهكذا يصبح الإهمال نمطا ذهنيا والمشهد الخارجي قاعدة للإدراك الداخلي.
في المقابل حين نعتني بمكان ولو صغير، فإننا نعيد تثبيت حضورنا فيه زحين ننظف فصلا دراسيا لا نجهزه فقط لاستقبال الدرس ولكن نعدل مناخ الوعي فيه وحين نزين ردهة مستشفى لا نجملها فقط ولكن نعيد صياغة التجربة الإنسانية لمن يمر بها وحين نكنس الطريق فإننا لا نفتح المسار للأقدام فقط لكن ننقي أيضا نظرة العابرين للحياة.
لذلك ليس الحل في الشكوى ولا في البحث عن المتهم بل في العودة إلى الوعي الأول أن المكان لا ينفصل عن الإنسان وأن عنايتنا به ليست مجاملة للعين بل غذاء للروح وفي كل مرة نمر فيها أمام رصيف متسخ ونصمت فإن جزءا منا يصمت أيضا وفي كل مرة نزيل عن باب قاعة دراسية غبارا متراكما فإننا نزيح شيئا من التشويش فينا.
ربما الحل يبدأ بهذه البساطة أن نعيد النظر، أن لا نمر كالعابرين في مشهد مهترئ، أن نجرؤ على التوقف، أن نمد اليد لا لنشير بل لنغير وأن نؤمن رغم كل شيء أن المكان يستحق لأنّنا نحن ببساطة نستحق الافضل دائما.