ستظل أحداث الرّش بسليانة وتداعياتها الخطيرة على أبناء الجهة الذين خرجوا إلى الشوارع متظاهرين للمطالبة بالتنمية والتشغيل باعتباره استحقاقا لم توله الحكومات المتعاقبة بعد الثورة ما يستحقه من أهمية وعناية في إطار العدالة الاجتماعية المنشودة، ضمن أخطر الجرائم التي نستعيد ذكراها المريرة في موفى كل شهر نوفمبر من كل سنة وتعيدنا ذكراها لما اقترفته حكومة «العار» من جرائم في حق هذا الشعب.
ستّ سنوات مرت على هذه الجريمة الفظيعة التي ارتكبتها حكومة حمادي الجبالي يوم 27 نوفمبر 2012 في حق متساكني سليانة العزّل، وكأنها حدثت اليوم باعتبار مخلفاتها التي لا يمكن أن تمّحي من ذاكرة التونسيين، والتي ارتبطت بتلك الحكومة الفاشلة التي شهدنا خلالها أبشع الجرائم الإرهابية والاغتيالات السياسية ضد حماة الوطن من الجنود والأمنيين والمناضلين الذين كان هاجسهم الدفاع عن الوطن والتنبيه لخطورة ما يحاك ضده من دسائس وتآمر من قبل من ارتدوا الأقنعة لإخفاء حقدهم الإيديولوجي الأعمى على مدنية الدولة وتشبث مواطنيها بقيم الحرية والديمقراطية.
كل هذه السنوات لم تنسنا عيون شباب سليانة التي فقعت عمدا، ولا نحيب نساء سليانة اللواتي فجعن في أبنائهن وهرعن إلى المستشفيات وهن لا يصدقن أن الدولة التي من المفروض أن تكون الحامية للشعب قد رفعت حكومتها ضده السلاح ، ولا رجال سليانة البواسل الذين أصروا بأنه لا بقاء لهم في الولاية إذا ما بقي فيها الوالي الذي قادهم إلى هذا المصير بفشل سياسته واعتماده فقط على قرابته من رئيس الحكومة آنذاك الذي تمسك به على حساب أبناء الجهة، فخرجوا من أماكنهم في حركة رمزية حفظها لهم التاريخ.
أحداث سليانة التي تمثلت أساسا في استعمال القوة المفرطة للتصدي للمتظاهرين ورشهم دون شفقة ببنادق الصيد، خلفت لشباب سليانة، إعاقات بصرية كثيرة كما هناك منهم من عجز عن استعادة القدرة على الحركة،و رغم ذلك لم يتسن لهؤلاء الحصول على جبر الأضرار، لأن القضية مازالت مفتوحة والجناة الأساسيين مازالوا محميين فهذه القضية لا تختلف في نتائج أبحاثها عن قضايا الاغتيالات التي لم تتم فيها إلى حد الآن محاسبة الجناة.
لكن إلى متى ستظل هذه القضية تراوح مكانها؟ وإلى متى يظلم الضحايا مرتين مرة بالجرم المرتكب ضدهم ومرة بالمماطلة وعدم الكشف عن الجناة الفعليين لتتحقق العدالة؟ وعلى غرار ما قاله ذات يوم الكاتب المصري الراحل مصطفى أمين « لماذا يأتي الظلم راكبا صاروخا ويأتي العدل راكبا سلحفاة ؟؟»، نتساءل هل لدينا عدالة بطيئة أم لدينا عدالة عاجزة عن تحقيق العدل أم لدينا عدالة مكبّلة بالسياسة ومتغيّراتها وارتهاناتها حتى تشهد القضايا العادلة كل هذا التسويف والمماطلة رغم توفر الحجج والبراهين؟
فقد تم ختم الأبحاث في هذه القضية في موفى 2017 وحصرت التهمة في أربعة أمنيين فقط دون تحميل المسؤولية لوزير الداخلية آنذاك علي لعريض وتم نقض هذا الحكم بعد استئنافه من قبل الدفاع وأعيد ملف القضية للتحقيق بالمحكمة العسكرية بالكاف للبحث عمّن أعطى التعليمات برش المواطنين. وقد كان علي لعريض نفى علمه بالتجهيزات والأسلحة التي كانت على ذمة التعزيزات الأمنية آنذاك مثلما نفى علمه بمن أذن للأعوان باستعمال الرش وأصر على أن «الواقعة تعد من قبيل التصرف الفردي من عون أمن دون إعلام الوحدة الأمنية التي يتبعها».
وقد سعت هيئة الحقيقة والكرامة إلى التحكم في مجريات القضية بدعوتها القضاء العسكري إلى التخلي عن القضايا المنشورة والمتعلقة بأحداث الرش لفائدتها وعقدت جلسة استماع لبعض الشهادات في 24 نوفمبر 2017 كان من الواضح أنها أرادت من خلالها إبعاد الشبهات عن الفاعلين الحقيقيين وتحميل المسؤولية في تصاعد وتيرة أحداث الرش للاتحاد الجهوي للمنظمة الشغيلة، وقد انتقد القضاء العسكري الهيئة واعتبر ذلك خرقا لمبدأ سرية التحقيق ومساسا بحقوق المتقاضين.
فهذه القضية كغيرها من القضايا التي ارتبطت بالنهضة أو بفترة حكمها ظلت تجوب أروقة المحاكم وتشهد مدا وجزرا وكأنها محكومة في «غرف سرية» لا يدري أحد متى تخرج إلى نور الحقيقة التي لابد لها أن تسطع يوما مهما طال الزمن.
