لقاء بيرم التونسي مع أم كلثوم شكل نقطة تحول كبرى في حياة الشاعر فقد كوّن مع كوكب الشرق وزكريا أحمد ثلاثيًّا حقّق نجاحًا ساحقا.
ألَّف الكثير من الأغاني والمسرحيات، وتعامل مع أم كلثوم، وفريد الأطرش، وأسمهان، وشادية، ونور الهدى، ومحمد فوزي، وقدم العديد من الأعمال الإذاعية. وصفه الكاتب المصري، كامل الشناوي، بالفنان الثائر، وقال أمير الشعراء، أحمد شوقي، عن زجله “هذا زجل فوق مستوى العبقرية”، أما عميد الأدب العربي، طه حسين، فعبر عن خشيته على العربية الفصحى من عامية أشعاره، وعندما ذكر اسمه أمام الفنان عادل إمام، قال: يا ساتر.. يا ساتر على هذا العبقري العظيم.
إنه، محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، ابن حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية، ولد فيها يوم 23 مارس 1889، وفيها كتب عن مصر وشعبها، “كلمات ليست كالكلمات”.
وكانت لرحيله قصة تستحق أن تروى؛ قبل رفع الستار في مسرح حديقة الأزبكية بدقائق، وبينما أم كلثوم تستعد لتقديم وصلتها الغنائية، مال نحوها محمد القصبجي هامسًا: “مات بيرم”.
أوقفت سيدة الغناء العربي وصلتها الثالثة، من أغنيتها “يا ظالمني”، وشرعت في غناء “الحبّ كده”؛ انساب صوتها، بكلمات بيرم، حزينا شجيا: “تشوفه يضحك وفي قلبه الأنين والنوح، عايش بلا روح، وحيد، والحب هو الروح، حبيب قلبي وقلبي معاه، بحبه في رضاه وجفاه”. وكأنما هي تروي قصة عذاب أمير شعراء العامية.
وهناك رواية أخرى تقول إن رحيله صادف يوم غناء أم كلثوم أغنية “هو صحيح الهوى غلاب”، لتكسب المكتبة العربية واحدة من أروع الأغاني في تاريخ الموسيقى الشرقية.
لا يهم أيًّا من الروايتين نصدق، ما هو مؤكد أن فنان الشعب، وأمير العامية، توفي يوم الخامس من يناير عام 1961، في حي السيدة زينب في القاهرة.
القصة من أوّلها
ينتمي محمود بيرم إلى عائلة تونسية عريقة، تمتعت، كما يقال، بنفوذ إداري وصيت علمي في فترة حكم البايات لتونس، وحسب الروايات فإن جده، مصطفى بيرم، رحل إلى الحجاز في منتصف القرن التاسع عشر لأداء فريضة الحج، وأثناء عودته أغرته مدينة الإسكندرية بالإقامة فيها، فوضع رحاله هناك، واشتغل بمهنة التجارة، وأنجب أبناء توارثوا عنه تجارة النسيج.
توفي والده وهو في سن الثانية عشرة، وبعد خمس سنوات توفيت والدته، وتركته غلاما وحيدا في الحياة؛ عمل في شتى المهن، في النجارة، وفي النسيج، ثم صيادا، فبقالا، غير أنه فشل في جميع تلك المهن، وبدّد ما كان بين يديه من ثروة قليلة ورثها عن والده.
ولكن، ما حكاية بيرم مع الشعر؟
كيف لطفل لم ينج يوما من فلقة الشيخ جاد الله، بكُتاب الحي، أن يحقق ما حققه بيرم من النجاح في عالم الصحافة والشعر؟
كان بيرم بليدا في الحساب، لا يفرق السبعة عن الثمانية، لذا لم ينج يوما من العقاب. ذهب إلى أبيه يرجوه أن ينقذه من قسوة الشيخ، ولكن الأب لم يأبه، وأجبره على الذهاب إلى الكُتاب، وكانت النتيجة عدم استيعاب الطفل لأي معلومات، وبالتالي تلقي المزيد من العقاب.
ويقول بيرم إنه لم يستفد من الكتُاب إلا بتعلم مبادئ القراءة والكتابة فقط. لم ييأس الوالد، فأرسله ليتابع الدراسة في المعهد الديني التابع لمسجد المرسي أبوالعباس؛ أقبل بيرم على الدروس بشغف، ولكنه لم يكمل مشواره الدراسي هناك؛ كان موت أبيه سببا للانقطاع عن الدراسة.
في الطريق إلى المنفى
قرر بيرم الزواج وهو في السابعة عشرة من عمره، ولكن سرعان ما كشرت الحياة عن أنيابها؛ باع المنزل الذي تركه له أبوه، وتفرغ للعمل في تجارة السمن.
وما أن استقر في عمله الجديد، حتى فوجئ يوما بالمجلس البلدي في الإسكندرية يحجز على بيته، ويطالبه بمبلغ كبير، عوائد عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا؛ وكأنما الدنيا أرادت، بهذا الحادث الدرامي، أن تمهد لولادة فنان كبير.
اغتاظ بيرم، وقرر أن يرفع راية العصيان، وما أحلاها من راية، ضد المجلس البلدي فكانت قصيدته: “يا بائع الفجل بالمليم واحدةً، كم للعيال وكم للمجلس البلدي، كأن أمي بلَّ الله تربتها أوصت، فقالت: أخوك المجلس البلدي، أخشى الزواج فإنْ يوم الزفاف أتى، يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي، أو ربما وهب الرحمن لي ولدًا، في بطنها يدعيه المجلس البلدي”.
نشرت القصيدة كاملة بجريدة “الأهالي” في الصفحة الأولى، وكانت أول قصيدة تُنشر لبيرم، وقد طُبعت من العدد أربعة آلاف نسخة، وكانت النسخة تباع بخمسة مليمات، وأحدث نشرها دوياً؛ فلم يعد في الإسكندرية من لم يتكلم عنها، أو يحفظها أو يرددها.
لم يكتف بيرم بنشرها في الصحيفة، بل أصدر كتيبًا يتضمنها، باعه بخمسة مليمات للنسخة الواحدة، فراج رواجًا عظيمًا، وطبعت منه مئة ألف نسخة، وهكذا وجه القدر بيرم إلى مهنة الأدب.
وشعر بيرم بعد هذا النجاح الأدبي أنّ إمكاناته أكبر من المدينة التي يعيش فيها، فشدّ الرحال إلى القاهرة، بحثا عن مجال أرحب، وعن وسط ثقافي وسياسي يتبنى مواهبه.
علاقة بيرم الجادة مع السياسة بدأت بتعرفه على سيد درويش، يقول: “لازمت الشيخ سيد درويش، وألفت له رواية “شهرزاد”، وتم عرضها بعد رحيلي الأول منفيًّا إلى الخارج”.
وكان سيد درويش قد طلب من بيرم أن يؤلف له أوبريت، تُلهب الحماسة في نفوس المصريين، وتدفعهم إلى مناهضة الاحتلال: “دائمًا حجة الإنجليز أمام العالم، لتبرير استعبادنا، أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم نفسه وأننا بحاجة إلى حماية مستمرة، وعلشان كده أنا شايف إن الأوبريت، من أولها إلى آخرها، لازم يكون فيها تمجيد للإنسان المصري”.
وهذا ما حصل، كتب بيرم ما يعتبره البعض أروع ما كتب في شعب مصر: “أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الأهرمين، جدودي أنشأوا العلم العجيب، ومجرى النيل في الوادي الخصيب”.
صدر بعدها أمر بإبعاد بيرم التونسي عن مصر، ونفيه إلى تونس بلد أجداده، يوم 25 أغسطس عام 1920، وكان سبب الإبعاد غضب الملك فؤاد عليه، بسبب قصيدته “البامية الملوكي والقرع السلطاني”، وبتوصية من زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد.
وكان بيرم قد أصدر خلال تلك الفترة صحيفتين ساخرتين، “المسلة” و”الخازوق”، وتمرس بالعمل الصحفي. وما إن وصل إلى تونس حتى بحث عن أهل أبيه، الذين رفضوا مساعدته. وحاول الاتصال ببعض الكتاب للاشتراك معهم في إصدار صحيفة، ولكن السلطات التونسية كانت تضعه تحت المراقبة، فالدعاية التي سبقته إلى تونس تقول إنه أحد الثوار ضد الإنجليز، فيقرر الرحيل من تونس بعد أربعة أشهر.
سافر إلى فرنسا متنقلا بين مرسيليا وباريس، التي شعر فيها بقسوة الغربة ولسعة البرد، لكن هذا لا يعطل الناس عن الاستيقاظ مبكرا، والتوجه إلى العمل. ودفعه ذلك إلى كتابة أبيات سجل فيها إعجابه بنشاط الشعب الفرنسي، وسجل فيها أيضا حزنه على مصر: “الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين، معمرين الطريق داخلين على خارجين، ومنورين الظلام راكبين على ماشيين”.
يفشل بيرم في الحصول على عمل في باريس، فيشد الرحال إلى مدينة ليون، التي وصفها في مذكراته بقوله “مدينة لأهلها قلوب مثل الصلب، لا تعرف الرحمة أو الشفقة”.
وهناك خَبِر الجوع، بعد أن تعرض لحادث أبعده عن العمل، والجوع في مدينة درجة حرارتها تحت الصفر، كما يقول، شيء قاتل لا يدركه إلا من ذاق مرارته.
يشعر بالحنين إلى مصر، فيبحث عن طريقة للعودة؛ يختصر اسمه في جواز سفر جديد يحمل ختم القنصلية البريطانية، ويصعد سفينة متجهة إلى مصر.
تكتشف سلطات الاحتلال دخوله مصر متسللًا، بعد 14 شهرا من التخفي؛ يُلقى عليه القبض، ويوضع على ظهر أول سفينة متجهة إلى فرنسا.
تحت السور
لا نريد أن نتحدث عن تفاصيل نفيه الثاني، متنقلا بين فرنسا، وبيروت، ودمشق وتونس، تكفي ثلاثة أبيات من الشعر تلخص التجربة: “الأولة مصر قالو تونسي ونفوني، والتانية تونس فيها الأهل جحدوني، والتالتة باريس وفيها الكل نكروني”.
مرت تسع سنوات، قضاها في فرنسا بعد نفيه للمرة الثانية، لا ينقطع فيها، رغم الألم النفسي والجسدي، عن تأليف أبدع القصائد، يرسلها إلى الصحف.
بحكم هذه الإقامة الطويلة في فرنسا، تعرّف بيرم إلى طلبة من شمال أفريقيا، توطدت علاقاته بهم، خاصة التونسيين منهم؛ كان يشعر بالانتساب إليهم، رغم تنكر الأهل له.
ومن الذين تعرّف إليهم آنذاك محمد بدرة، الذي كان ينتمي إلى عائلة بدرة المعروفة بنشاطها الاقتصادي. ويبدو أن بدرة، الذي عرف بفطنته وحبه للفن، فكر في استقدام محمود بيرم إلى تونس، للاستفادة من مواهبه في الأعمال الصحافية لجماعة ينتمي إليها، اتخذت من جريدة “الزمان” لسان حال لها، ليسافر بيرم إلى تونس، أواخر عام 1932، ويكلف برئاسة تحرير “الزمان” في يناير 1933.
تحوّلت الجريدة بجهود بيرم إلى صحيفة مرموقة، شن على صفحاتها حملات لاذعة على جماعة الحزب الدستوري القديم، واشتدت الحملة ضراوة وعنفا بعد الانقسام الذي حدث داخل الحزب الدستوري، وانشقاق جماعة الحزب الجديد عنه في سنة 1934.
في هذا المناخ الجديد، وجد بيرم متنفّسا للعودة إلى العمل الصحافي؛ بدأ يشارك زملاءه من “جماعة تحت السور” تحرير الصحف التي أصدروها، خاصة جريدة “السرور”، التي أصدرها القصاص التونسي علي الدوعاجي، في سبتمبر 1936.
ثم أصدر في شهر أكتوبر، من السنة نفسها، جريدة بعنوان “الشباب”، سرعان ما أغلقت بأمر من السلطات، ولم يحبط إغلاقها عزيمة محمود بيرم، الذي ما لبث أن أصدر، مع أحد المتعاطفين معه، جريدة باسم “السردوك”.
ولم تردع القرارات الزجرية الصادرة عن السلطات بيرم، ولم تثنه عن مواصلة أسلوبه التهكمي، ليصدر قرار إبعاده عن تونس، في الأسبوع الأول من شهر أبريل 1937.
وعبثا حاولت الصحف لفت نظر المقيم العام والسلطة الاستعمارية إلى خطأ القرار، وما يجسّده من اختراق للقوانين بإبعاد مواطن تونسي عن وطنه. واجتمع الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري التونسي في مكتب الحبيب بورقيبة بباب سويقة، في جلسة رسمية حضرها صالح بن يوسف، وسليمان بن سليمان، ومحمود بورقيبة والبحري قيقة، وقرّروا الاحتجاج للحيلولة دون تنفيذ القرار، إلاّ أن بيرم، الذي حضر هذا الاجتماع، أبى أن يزج بالبلاد في معركة يراها خاسرة مع المستعمر.
غادر بيرم تونس إلى الشام يوم 21 أبريل 1937، مودعا من قبل ثلة قليلة من أصدقائه، الذين حضروا معه إلى الميناء في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
مع أم كلثوم
شكل لقاء بيرم التونسي مع أم كلثوم نقطة تحول كبرى في حياة الشاعر، فقد كوّن مع كوكب الشرق وزكريا أحمد ثلاثيّا حقّق نجاحا ساحقا، وأصبحت مصر كلها تتغنى بكلماته؛ أغنيات باتت علامة مهمّة في مسيرة الطرب العربي: الأولة في الغرام، وأنا في انتظارك، وحبيبي يسعد أوقاته، وحلم، والأمل، وغني لي شوي شوي، والورد جميل.
وبغض النظر عن عمق العلاقة، ومتانة الصداقة، بين بيرم وزكريا، المؤكد أن طريقة شيخ الملحنين وأسلوبه الخفيف الساخر، كانا الأنسب لما كتبه بيرم من كلمات.
كانت أعمال الرجلين، بصوت أم كلثوم، الأقرب إلى الطبقات الشعبية والبسطاء؛ فكلمات بيرم تتسم بالسهولة والوضوح، ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه كلمات أحمد رامي من تفكير، وكذلك كانت ألحان الشيخ زكريا، شديدة الوضوح، مقاماً وإيقاعاً، تمتلئ بذلك التقطيع الذي يحبه جمهور “السلطنة”.
ورغم الخلاف، الذي دب بين أم كلثوم والشيخ زكريا، استمر التعاون بينها وبين بيرم، فأنشدت من كلماته بألحان رياض السنباطي، واحدة من أروع قصائده، شمس الأصيل. وغنت له، الحب كده. وبعد مصالحة السيدة مع زكريا أحمد، عاد الملحن الكبير مرة أخرى بكلمات بيرم الخالدة مع أغنية، هو صحيح الهوى غلاب. وكان ختام ما غنت له، قصيدته الصوفية الرقيقة، القلب يعشق كل جميل.
ورغم الروح الواحدة التي تجمع كلمات بيرم، إلا أنه من أكثر المجددين حرصا على التنوع في التشطير والقوافي.
مثلت كلمات بيرم التونسي نقطة تحول في مسيرة أم كلثوم، التي أصبحت “تطير بجناحين، جناح الرومانسية، من خلال كلمات أحمد رامي، وجناح الرفض العاطفي، من خلال كلمات بيرم، التي تتعامل بسخرية لا تخلو من استعلاء على معاني الهجر والوجد”.
وبينما يسيطر الحبيب على عقل رامي وقلبه، وتفشل محاولات نسيانه -“بفكر فيك وأنا ناسي”- يتعامل بيرم مع هذه المشاعر كأنها تحدث للآخرين الأغراب، فالحب بالنسبة له مراوحة بين مشاعر متناقضة: “الحب كده، وصال ودلال، ورضا وخصام، وأهو من ده وده، الحب كده”.
عاش بيرم التونسي حاملا الكثير من الألم، محروما من الجنسية المصرية والتونسية، إلى أن قامت ثورة يوليو وأطاحت بالنظام الملكي، وحققت للشاعر الكبير أمنيته، حصل على الجنسية عام 1954، وتقديرا لجهوده في الارتقاء بالكلمة، منحه الرئيس جمال عبدالناصر جائزة الدولة التقديرية عام 1960؛ بعد هذا التكريم بأشهر قليلة رحل بيرم التونسي.
كيف يعاني شظف العيش من أهدى أم كلثوم 13 أغنية، هي من أجمل أغانيها، وكيف تنكره بلاد أهداها، وأهدى العرب، أجمل أغنية وطنية جمعتهم على بساط الريح مع الموسيقار المطرب، فريد الأطرش؛ الأغنية التي زرعت المرسى وحلق الواد في أفئدة العرب؟
محلقا فوق بلاد الشام وبغداد، طائرا فوق مراكش، عائدا إلى تونس، مختتما جولته في مصر التي أحب: “تونس أيا خضرة يا حارقة الأكباد، غزلانك البيضة تصعب على الصياد، غزلان في المرسى ولا في حلق الواد، على الشطوط تعوم. بساط الريح قوام يا جميل أنا مشتاق لوادي النيل، أنا لفّيت كثير ولقيت البعد عليَّ يا مصر طويل”.
بعد 60 عاما من رحيله، أما آن لفنان الشعب المتعب، أن يستريح في موطنه؟
لماذا لا يسمى المسرح البلدي في العاصمة تونس باسمه، وتكون هناك جائزة لأفضل كلمات أغنية تحمل اسم “بيرم التونسي”؟
لماذا لا توشح تونس صدرها بنصب ثان، يوضع إلى جانب نصب ابن خلدون، تنقش على قاعدته بطاقة هوية تحمل رقم (1) باسم فنان الشعب، وأمير شعراء العامية، وهرم الجزل “بيرم التونسي”؟
لماذا لا تسترد تونس ابنها المنفي؟
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس