منذ أيام نشر الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى تدوينة خلاصتها أن سبب انتصارنا في معركة السادس من أكتوبر 1973 م أنه لم يكن في مصر إذ ذاك سلفيون يكفرون البلد – بحسب تعبيره- وأن الاخوان كانوا في السجون أو هاربين خارج البلاد.
والحق أن مثل هذه الكلام لم يكن جديداً بالنسبة لي ، فقد قرأت كلاماً مثله في العام قبل الماضي ،وذلك حين نشرت مجلة روزا اليوسف في ذكرى انتصار أكتوبر مقالاً عنوانه : ( انتصرنا لأننا لم نعرف هؤلاء ). وكانت خلاصة ذلك المقال أن انتصارنا في السادس من أكتوبر 1973م كان سببه أنه لم يكن هناك وجود للسلفيين ،وإلا كنا انشغلنا عن الحرب والإعداد لها بالحديث عن النقاب والحجاب ، والفتاوى الغريبة مثل نكاح الوداع وجواز معاشرة البهائم ، كما يذكر كاتب المقال أنه لو كان السلفيون موجودين وأفكارهم منتشرة بين المواطنين البسطاء؛ للحقت بنا هزيمة فادحة أشد وأكبر وأخطر من نكسة يونيو 1967 .وقد كتبت يومها في الرد على تلك الفرية مقالاً أراني اليوم مضطراً لاستعادة بعض ما جاء فيه ؛ لأن الفكرة عند الاثنين –كما ذكرنا- واحدة .
ولعل عنوان مقالنا هذا يلخص ما نريد أن نقوله ، وذلك أننا هُزمنا يوم الخامس من يونيو سنة 1967م هزيمة مروعة ، سمَّاها الأستاذ هيكل بالنكسة من أجل التخفيف من وقعها على الشعب. وفي تلك الأثناء لم يكن ثمة وجود لما يسمى بالتيار الإسلامي ، بل إنَّ كل من عاش في تلك الفترة يعلم يقيناً مدى التضييق الذي كان واقعاً على كل مظهر إسلامي ، فلم تكن مظاهر الالتزام الديني كاللحية والحجاب -فضلاً عن النقاب - منتشرة في مجتمعنا .فلماذا لمْ ننتصر يومها مع عدم وجود الإسلاميين الذين هم -في نظر القوم - سبب كل بلاء وهزيمة ؟ ومَن يا ترى كان المتسبب في هزيمة جيوش ثلاث دول عربية في ساعات معدودات ؟
إن الحقيقة التي لا يريد أصحاب التوجهات العلمانية في بلادنا أن يعترفوا بها هي أن سبباً رئيساً في هزيمة العرب عام 67 هو بُعد أنظمتهم عن الله عز وجل ومخالفة منهجه سبحانه وتعالى ، وذلك من منطلق قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ محمد : 7]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على أن طاعة الله تعالى من أهم أسباب النصر ،وأن معصيته ومخالفة أمره من أهم أسباب الهزيمة والفشل . وأنا أعلم أن هذا التفسير للنصر والهزيمة لا يروق لطوائف العلمانيين وأصحاب التوجهات اليسارية ، الذين تزخر كتاباتهم بالسخرية من هذا القول وتصمه بالجهل والتخلف. يقول الكاتب عادل حمودة في كتابه : ( الهجرة إلى العنف ص: 99 ) متحدثاً عن الفترة التي أعقبت هزيمة 67 : (( ... وخرجت بعض قوى اليمين ... وهي تفسر الهزيمة تفسيراً كان بينه وبين المنطق والعقل والواقع مسافة من عدم الفهم ليست قصيرة،فالهزيمة عندها لم تقع بسبب صراعات السلطة،وفساد الجيش،أو بالتحديد فساد قيادته،وانعدام الخبرة،وضعف التدريب والتخطيط،إلخ الأسباب التي كشفت فيما بعد،وإنما وقعت الهزيمة لأننا نسينا الله ،ولأننا فقدنا اتصالنا بالسماء ،ولأننا تركنا طريق الإسلام ومشينا في طريق الشيطان ....).
ونحن نقول : إننا لسنا من السذاجة بحيث ننكر أن من أسباب الهزيمة ما ذكره الكاتب من وجود الفساد في الجيش وصراعات السلطة ، وما لم يذكره كتوريط جزء كبير من الجيش المصري في حرب اليمن ، وغير ذلك من الأسباب ، لكنا مع ذلك نقول إن البعد عن منهج الله ومخالفة أمره هو من أهم أسباب وقوع ذلك الفساد وحدوث تلك الصراعات ،فلو كان قادة البلاد في تلك الفترة ممتثلين لأوامر الله لطبقوا شرعه،ولامتثلوا أمره في ضرورة إعداد العدة للعدو، ولنصَّبوا على الجيش من يصلح لقيادته .لكنهم لما نسوا الله اهتموا بغير ذلك فوقع ما وقع .
وهذا يفسر لنا الموقف الشهير للشيخ الشعراوي حيث سجد لله شكراً بعد هزيمة يونيو ،هذا الموقف الذي تعرض بسببه الشيخ رحمه الله لكثير من السخرية والاتهام بأنه ليس وطنياً ، مع أن الشيخ رحمه الله قد فسر موقفه هذا بأنه كان يرى أن البلد تسير في نظام اشتراكي مخالف للنهج الإسلامي فكان اجتهاده أننا لو انتصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لكان ذلك فتنة للناس في دينهم ؛إذ يظنون أن تلك المناهج المخالفة للشرع مناهجَ صحيحة ؛لأنها أدت إلى الانتصار ، ولذلك سجَد الشيخ أيضاً حين علم بعبور القوات المصرية قناة السويس وتحطيمها خط بارليف تحت شعار : الله أكبر .
وكذلك فإن مما لا يريد أصحاب التوجهات العلمانية أن يتذكروه ،ولا أن يذكروه للناس أن لانتصار أكتوبر أسباباً عدة ،كان من أولها الاهتمام بالناحية الدينية لدى الضباط والجنود، ومَن يراجع بإنصاف وثائق ما بعد نكسة 67 سيلمس بوضوح كيف أن المخلصين في مصر أدركوا بعد الهزيمة أنه لا بد من العودة إلى الدين ، وأن رفع الروح المعنوية للجنود لا بد أن يمر عبر التوجيه الديني .
ولذلك كانت قوافل العلماء لا تنقطع عن الذهاب لجبهة القتال في أثناء حرب الاستنزاف ، وكان للشيخ المجاهد حافظ سلامة حفظه الله القدح المعلى في استقبال تلك القوافل وترتيب محاضراتهم للضباط والجنود، مع أنه كان في أثناء حرب يونيو معتقلاً في سجن أبي زعبل ولم يخرج إلا بعد النكسة بحوالي عام.
كما كان مسجد الشهداء بمدينة السويس هو المكان الذي انطلقت منه عشرات بل مئات العمليات الفدائية التي كان يخوضها جنود مصر وضباطها أثناء حرب الاستنزاف ،وكان الشيخ حافظ كثيراً ما يجلس مع أولئك الجنود قبل انطلاقهم لتلك العمليات يذكرهم بفضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ، وكان من يرجع منهم حياً يعود إلى ذات المسجد يصلي فيه ويشكر الله على نعمته ، وكذلك من ينال الشهادة منهم كان يُرجَع به أيضاً إلى المسجد ليتولى الشيخ دفنه .
كما كان للشيخ حافظ سلامة وتلاميذه من أبناء التيار الإسلامي الدور الأكبر في التصدى لقوات العدو الصهيوني في محاولتها احتلال السويس بعد حرب السادس من أكتوبر ،حيث أصروا بالتعاون مع إخوانهم من أبناء القوات المسلحة على الدفاع عن المدينة مهما كلفهم ذلك من ثمن ، وذلك في الوقت الذي كان فيه محافظ المدينة يهم بالاستسلام لليهود .
وكل ما ذكرناه -وأكثر منه بأضعاف مضاعفة- موثق بالصور والشهادات الحية بأقلام قادة القوات المسلحة في تلك الفترة وعلى رأسهم الفريق سعد الدين الشاذلي ، واللواء عبد المنعم واصل ،واللواء تحسين شنن وغيرهم ،ومَن شاء أن يتأكد من ذلك فإنه يمكنه الرجوع إلى الكتاب المهم الذي أصدره الشيخ حافظ سلامة بعنوان : ( ملحمة السويس في حرب العاشر من رمضان ).
ويقيني أنْ لو ثبتنا على مثل الروح الإيمانية التي بدأنا بها حرب العاشر من رمضان لتحقق لنا من النصر أكثر مما تحقق بكثير ، ولكن حدث كما ذكر الشيخ الشعراوي -في حواره مع طارق حبيب - أن بعض الكُتَّاب راح في أثناء الحرب يشكك في كون الروح الدينية من أسباب النصر ، ويعتبر ذلك خرافة من الخرافات ، فحدثت ثغرة الدفرسوار الشهيرة ، ولم يكتمل ما كنا نرجوه من تحرير كامل الأرض العربية والإسلامية .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين